للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الأسماءُ التي يشار بها إلى المسمى، وفيها من أجلِ ذلك معنى الفعل، ولذلك كانت عاملة في الأحوال، وهي ضربٌ من المبهم. وإنما كانت مبنية لتضمّنها معنى حرفِ الإشارة. وذلك أن الإشارة معنى، والموضوع لإفادةِ المعاني إنّما هي الحروفُ، فلما استُفيد من هذه الأسماء الإشارة، عُلم أن للإشارة حرفًا تَضمَّنه هذا الاسم، وإن لم يُنْطَق به، فبُني كما بُني "مَنْ"، و"كَمْ " ونحوُهما. وقال قوم: إنّما بُني اسمُ الإشارة لشَبَهه بالمضمر، وذلك لأنّك تشير به إلى ما بحَضْرتك ما دام حاضرًا، فإذا غاب، زال عنه ذلك الاسمُ. والأسماءُ موضوعة للزومِ مسمَّياتها, ولمّا كان هذا غيرَ لازم لِما وُضع له؛ صار بمنزلة المضمر الذي يُسمَّى به إذا تقدم ظاهرٌ، ولم يكن اسمًا له قبل ذلك، فهو اسمٌ للمسمى في حال دون حال، فلمّا وجب بناءُ المضمر، وجب بناء المبهم كذلك.

ويقال لهذه الأسماء: مبهماتٌ؛ لأنها تشير بها إلى كل ما بحضرتك، وقد يكون بحضرتك أشياء، فتُلْبِس على المخاطب، فلم يدر إلى أيها تشير، فكانت مبهمة لذلك. ولذلك، لزمها البيانُ بالصفة عند الإلباس.

ومعنى الإشارة الإيماء إلى حاضر بجارحةٍ أو ما يقوم مقامَ الجارحة، فيتعرفُ بذلك، فتعريفُ الإشارة أن تخصِّص للمخاطب شخصًا يعرفه بحاسَّةِ البَصَرِ، وسائرِ المعارف هو أن تختصّ شخصًا يعرفه المخاطبُ بقلبه، فلذلك قال النحويون: إِن أسماء الإشارة تتعرّف بشيئَيْن: بالعين وبالقلب.

فـ "ذا" إشارة إلى مذكر، وهو ثُلاثىُّ، ووزنُه "فَعْلٌ" ساكنَ العين محذوفَ اللام، وألفُه منقلبة عن ياء، فهو من مضاعَفِ الياء من بابِ "حَييتُ"، و"عَيِيتُ". هذا مذهبُ البصريين، قالوا: أصلُه: "ذَيٌّ" على لفظِ "حَىٍّ"، و"عَىٍّ"، ثمّ حُذفت اللام لضرب من التخفيف، فبقي "ذَيْ" ساكن الياء، فقُلبت ياؤه ألفًا، لئلا يُشْبِه الأدواتِ، نحو: "كَيْ"، و"أَيْ".

فإن قيل: فمن أَيْنَ زعمتم أن ألفَه منقلبةٌ عن ياء؟ وهلّا كانت أصلاً، لبُعْدها من التمكّن، وعدم اشتقاقِها كما قلتم ذلك في ألِف "مَتَى" و"لَدَى"، و"إذا" ونحوها من الأسماء غير المتمكنة. فالجوابُ: أنهم قد قالوا في "ذَا": "ذا"، فأمالوها، حكاه سيبويه، فدل أنها من الياء. وذهب قومٌ إلى أنّها من الواو، قالوا: لأن بابَ "شَوَيْتُ"، و"لَوَيْتُ" أكثرُ من بابِ "حَيِيتُ" و"عَيِيتُ". والأوّلُ أقيسُ لمجئ الإمالة فيها.

فإن قيل: ولِمَ حكمتم عليها بأنّها من ذواتِ الثلاثة؟ وهلّا كانت ثُنائيةَ كـ"منْ"، و"كَمْ". قيل: لأن "ذَا" اسمٌ منفصلٌ قائمٌ بنفسه، قد غلب عليه أحكامُ الأسماء الظاهرة، نحو وَصْفه، والوصف به، وتثنيته، وتحقيره. فلمّا غلب عليه شَبَهُ الأسماء المتمكّنة، حُكم عليه بأنه ثُلاثى كالأسماء المتمكنة. وقد جعله بعضُهم من الأسماء الظاهرة، وهو القياسُ، إذ لا يفتقر إلى تقدُّم ظاهرِ، فيكونَ كنايةَ عنه.

<<  <  ج: ص:  >  >>