للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال الشارح: اعلم أن الاستفهام هنا استثباتٌ، وهو ضربٌ من الحكاية، والغرضُ به إعلامُ السامع أنه قد تقدم كلام هذا إعرابُه، خَوْفًا من أن يكون عرض له غفلةٌ من استماعِ الكلام المتقدّم. وكان القياسُ أن تُعاد الكلمة جَمْعاءَ بالألف واللام، أو تُضمَر؛ لأنها تصير معهودة لتقدمِ ذكرها. قال الله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} (١)، إلَّا أنهم عدلوا عن ذلك، لئلّا يُتوهم فيه أنه معهود غيرُ الأول، فزادوا على "مَنْ" في الوقف زيادة تُؤذِن بأنه قد تقدم كلامٌ هذا إعرابُه، وأن القصد إليه دون غيره.

وكانت تلك الزيادةُ من حروف المدَّ واللين؛ لأنها تُجانِس الحركاتِ. فقابلوا كل حركة في لفظ المُذكر بما يُجانِسها من هذه الحروف. فإن كان مرفوعًا، زدتَ في أداة الاستفهام واوًا. وإن كان منصوبًا، زدت ألفًا. وإن كان مجرورًا، زدت ياءً. فإذا قال القائلُ: "هذا رجلٌ"، قلت في جوابه: "مَنُو"؟ وإذا قال: "رأيت رجلًا"، قلت في جوابه: "مَنَا"؟ وإذا قال: "مررت برجل"، قلت: "مَنِي"؟ وتُثني، وتجمع، وتُؤنث، فتقول إذا قال: "هذان رجلان": "مَنَانْ"؟ وإذا قال: "رأيت رجلَيْن"، أو"مررت برجلَيْن"، قلت: "مَنَيْنْ"؟ وإذا قال: "هؤلاء رجالٌ"، قلت: "مَنُونْ"؟ وإذا قال: "رأيت رجالًا" أو"مررت برجالٍ"، قلت: "مَنِينْ"؟ فإن قال: "رأيت امرأةً"، قلت: "مَنَهْ"؟، و"مَنْتْ"؟، كما يقال: "ابْنَهْ"، و"بِنْتْ". وإذا قال: "هاتان امرأتان"، قلت:"مَنْتَانْ"؟ وإذا قال: "رأيت امرأتَيْن"، أو"مررت بامرأتَيْن"، قلت: "مَنْتَيْنْ"؟ بإسكان النون، كأنه ثنى "مَنْت"، فقال: "مَنْتَان"، كما يقال: "بِنْتَان"، و"ثِنْتَان". وإذا قال في الجمع: "رأيت نساء"، قلت: "مَنَاتْ"؟ بإسكان التاء.

واعلم أنك إذا قلت في الاستثبات "مَنُو"، أو"مَنَا"، أو"مَنِي"، فـ "مَنْ" في موضعِ رفع بالابتداء، والخبرُ محذوف، والتقديرُ: مَن المذكور؟ أو مَن المستفهَمُ عنه؟ أو يكون خبرًا، والمحذوفُ هو المبتدأُ، وهذه الزياداتُ ليست إعرابًا لما دخلتْ عليه، وإنما هي علامات يُحكَى بها حالُ الاسم المتقدّم. وإنما قلت ذلك لأمرَيْن: أحدُهما: أن "مَنْ" مبنية لتضمنها حرفَ الاستفهام، وذلك مستمِرٌ فيها. وإذا كان مستمرًا فيها، استمر البناءُ لاستمرارِ سَبَبه. والأمرُ الثاني: أن هذه العلامات لا تثبُت إلَّا في الوقف، والإعرابُ لا يثبت في الوقف.

وقد اختلف العُلماء في كَيْفِيةِ دخولِ هذه الحروف، فقال قومٌ: إنما دخلت الحركات التي هي الضمةُ والفتحة والكسرة "مَنْ" في حال الوقف حكايةً لإعراب الاسم المتقدّم، ولم تكن الحركةُ ممّا يُوقَف عليها، فوصلوها بهذه الحروف لتبيينِ ما قصدوه من الدلالة، فوصلوا الضمّةَ بالواو، والفتحةَ بالألف، والكسرةَ بالياء،


(١) المزمل: ١٥ - ١٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>