قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن مما ذُكر أن الراجح أن فرض الزكاة كان بعد الهجرة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم فيمن تجب عليه الزكاة:
قال الإمام محمد بن رُشد رحمه اللهُ في كتابه "بداية المجتهد، ونهاية المقتصد": اتفقوا على أنها تجب على كل مسلم حرّ، بالغ، عاقل، مالك للنصاب، ملكًا تامًّا.
واختلفوا في وجوبها على اليتيم، والمجنون، والعبيد، وأهل الذّمّة، والناقص الملك، مثل الذي عليه دينٌ، أو له الدين، ومثل المال المحبّس الأصل.
فأما الصغار، فإن قومًا قالوا: تجب عليهم الزكاة في أموالهم، وبه قال عمر، وعلىّ، وابن عمر، وجابر، وعائشة، والحسن بن عليّ من الصحابة - رضي الله عنهم -، وبه قال جابر بن زيد، وابن سيرين، وعطاء، ومجاهد، وربيعة، ومالك، والشافعيّ، والثوريّ، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وغيرهم من فقهاء الأمصار.
وقال قوم: ليس في مال اليتيم صدقة أصلًا. وبه قال النخعيّ، والحسن، وسعيد بن جبير، من التابعين.
وفرّق قوم بين ما تُخرج الأرض، وبين ما لا تُخرجه، فقالوا: عليه الزكاة فيما تُخرجه الأرض، وليس عليه زكاة فيما عدا ذلك، من الماشية، والنّاضّ (١)، والعُرُوض، وغير ذلك. وهو قول أبي حنيفة، وأصحابه.
وفرق آخرون بين النّاضّ وغيره، فقالوا: عليه الزكاة إلا في الناضّ.
قال ابن رشد: وسبب اختلافهم في إيجاب الزكاة عليه، أو لا إيجابها هو اختلافهم في مفهوم الزكاة الشرعية، هل هي عبادة كالصلاة، والصيام؟ أم هي حقّ واجب للفقراء على الأغنياء؟ فمن قال: إنها عبادة اشترط فيها البلوغ، ومن قال: إنها حقّ واجبٌ للفقراء والمساكين في أموال الأغنياء، لم يَعتَبِر في
(١) أي: الدراهم والدنانير، فقد ذكر في "القاموس" من معاني "الناضّ": الدرهم والدينار، أو إنما يسمّى ناضًّا إذا تحوّل عينًا بعد أن كان متاعًا. انتهى بتصرّف.