للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

[فصل]

وأما قول السائل: "هل لها كيفية تعلم؟ " فهذا سؤال مُجْمَلٌ، إن أراد أنه يعلم ما يُعلم من صفاتها وأحوالها فهذا مما يُعلم، وإن أراد أنها هل لها مثل من جنس ما يَشهده من الأجسام، أو هل لها من جنس شيء من ذلك؟ فإن أراد ذلك فليس كذلك، فإنها ليست من جنس العناصر: الماء والهواء والنار والتراب، ولا من جنس أبدان الحيوان والنبات والمعدن، ولا من جنس الأفلاك والكواكب، فليس لها نظير مشهود ولا جنس معهود، ولهذا يقال: إنه لا يُعلم كيفيتها، ويقال: إنه مَن عَرَف نفسه عَرَف ربه، من جهة الاعتبار، ومن جهة المقابلة، ومن جهة الامتناع.

فأما الاعتبار، فإنه يَعلَم الإنسان أنه حيّ عليم قدير سميع بصير متكلم، فيتوصل بذلك إلى أن يفهم ما أخبر الله به عن نفسه، من أنه حيّ عليم قدير سميع بصير، فإنه لو لم يتصور لهذه المعاني من نفسه ونظره إليه، لم يمكن أن يَفْهَم ما غاب عنه، كما أنه لولا تصوره لِمَا في الدنيا من العسل واللبن والماء والخمر والحرير والذهب، لَمَا أمكنه أن يتصور ما أُخبر به من ذلك من الغيب، لكن لا يلزم أن يكون الغيب مثل الشهادة، فقد قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء.

فإن هذه الحقائق التي أُخبر بها أنها في الجنة ليست مماثلة لهذه الموجودات في الدنيا، بحيث يجوز على هذه ما يجوز على تلك، ويجب لها ما يجب لها، ويمتنع عليها ما يمتنع عليها، وتكون مادّتها مادّتها، وتستحيل استحالتها، فإنا نعلم أن ماء الجنة لا يَفسد وَيأْسَنُ، ولبنها لا يتغير طعمه، وخمرها لا يُصَدَّع شاربها ولا يُنْزَف عقله، فإن ماءها ليس نابعًا من تراب ولا نازلًا من سحاب مثل ما في الدنيا، ولبنها ليس مخلوقًا من أنعام كما في الدنيا، وأمثال ذلك، فإذا كان ذلك المخلوق يوافق ذلك المخلوق في الاسم، وبينهما قدر مشترك وتشابه عُلِم به معنى ما خوطبنا به، مع أن الحقيقة ليست مثل الحقيقة، فالخالق جَلّ جلاله أبعد عن مماثلة مخلوقاته مما في الجنة لما في الدنيا، فإذا وَصَفَ نفسه بأنه حيّ عليم سميع بصير قدير، لم يَلْزَم أن يكون مماثلًا لخلقه؛ إذ كان بُعْدُه عن مماثلة خلقه أعظم من بُعْد مماثلة كل مخلوق