للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

[فصل]

والمقصود هنا أن اسم العقل عند المسلمين وجمهور العقلاء إنما هو صفة، وهو الذي يُسَمَّى عرضًا قائمًا بالعاقل، وعلى هذا دلّ القرآن في قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة: ٧٣]، وقوله: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج: ٤٦]، وقوله: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران: ١١٨]، ونحو ذلك مما يدلّ على أن العقل مصدر عَقَلَ يَعْقِل عَقْلًا، وإذا كان كذلك فالعقل لا يُسَمَّى به مجرد العلم الذي لم يعمل به صاحبه، ولا العمل بلا علم، بل إنما يُسَمَّى به العلم الذي يعمل به والعمل بالعلم، ولهذا قال أهل النار: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: ١٠]، وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج: ٤٦]، والعقل المشروط في التكليف لا بُدّ أن يكون علومًا يُمَيِّز بها الإنسان بين ما ينفعه وما يضره، فالمجنون الذي لا يُمَيِّز بين الدراهم والفلوس، ولا بين أيام الأسبوع، ولا يفقه ما يقال له من الكلام ليس بعاقل، أما مَن فهم الكلام، ومَيّز بين ما ينفعه وما يضره فهو عاقل، ثم من الناس من يقول: العقل هو علوم ضرورية، ومنهم من يقول: العقل هو العمل بموجب تلك العلوم.

والصحيح أن اسم العقل يتناول هذا وهذا، وقد يراد بالعقل نفس الغريزة التي في الإنسان التي بها يعلم ويميّز ويَقْصِد المنافع دون المضار، كما قال أحمد بن حنبل والحارث المحاسبيّ، وغيرهما: إن العقل غريزة، وهذه الغريزة ثابتة عند جمهور العقلاء، كما أن في العين قوّة بها يُبْصِر، وفي اللسان قوة بها يذوق، وفي الجلد قوة بها يلمس عند جمهور العقلاء.

ومن الناس من يُنكر الْقُوَى والطبائع، كما هو قول أبي الحسن، ومن اتبعه من أصحاب مالك، والشافعي، وأحمد، وغيرهم، وهؤلاء المنكرون للقوى والطبائع، ينكرون الأسباب أيضًا، ويقولون: إن الله يفعل عندها لا بها، فيقولون: إن الله لا يُشبع بالخبز، ولا يُروي بالماء، ولا يُنبت الزرع بالماء، بل يفعل عنده لا به، وهؤلاء خالفوا الكتاب والسنة وإجماع السلف مع مخالفة صريح العقل والحسّ، فإن الله قال في كتابه: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ