للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

على خلق عظيم، وأنه رؤوف رحيم، فإن هذا الجفاء العظيم الذي صدر من هذا الأعرابيّ لا يصبر عليه، ولا يحلُم عنه مع القدرة عليه إلا مثله -صلى الله عليه وسلم-، ثم ضحكه عند هذه الجبذة الشديدة التي انشقّ البرد لها، وتأثّر عنقه بسببها حتى انفلت عن وجهته، ورجع إلى نحر الأعرابيّ دليل على أن الذي تمّ له من مقام الصبر والحلم ما تمّ لأحد، وهذا نظير صبره -صلى الله عليه وسلم-، وحلمه يوم أُحد حيث كُسِرت رَبَاعيته، وشُجّ في وجهه، وهو في هذا الحال يقول: "اللهم اغفر لقومي، فإنهم لا يعلمون"، -صلى الله عليه وسلم- وشرّف وكرّم. انتهى (١).

وأخرج أبو داود، والنسائيّ، واللفظ له، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: كنا نقعد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المسجد، فإذا قام قمنا، فقام يومًا، وقمنا معه، حتى لَمّا بلغ وسط المسجد أدركه رجل، فجبذ بردائه من ورائه، وكان رداؤه خَشِنًا، فحَمَّر رقبته، فقال: يا محمد احمل لي على بعيريَّ هذين، فإنك لا تَحْمِل من مالك، ولا من مال أبيك، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا، وأستغفر الله، لا أحمل لك حتى تُقِيدني مما جبذت برقبتي"، فقال الأعرابيّ: لا والله لا أُقيدك، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثلاث مرات، كلُّ ذلك يقول: لا والله لا أقيدك، فلما سمعنا قول الأعرابيّ أقبلنا إليه سِرَاعًا، فالتفت إلينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "عَزَمتُ على من سمع كلامي أن لا يَبْرح مقامه حتى آذن له"، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لرجل من القوم: "يا فلان احمل له على بعيرٍ شعيرًا، وعلى بعير تمرًا"، ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "انصرفوا"، وفي سنده هلال بن أبي هلال المدنيّ وثّقه ابن حبّان، وقال الذهبيّ: لا يُعرف.

٣ - (ومنها): أن قوله: "غليظ الحاشية" يدلّ على إيثار النبيّ -صلى الله عليه وسلم- من الدنيا، والتبلّغ منها بما أمكن من اللباس، والمطعم، وغيره، وأنه لم يكن بالذي يترفّه في الدنيا، ولا يتوسّع فيها.

٤ - (ومنها): بيان جفاء الأعراب، وغلظة طبيعتهم، فهم كما أخبر الله تعالى بقوله: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ


(١) "المفهم" ٣/ ١٠١ - ١٠٢.