فقلت: يا عبد الله لم تجئني هذه المسألة رَخِيصَة، وسأحدثك كيف استوفيتها.
اعلم أني رَحَلتُ يومًا لشيخنا وسيدنا أبي الحسن علي بن محمد الأندلسي الْغَرْنَاطيّ - رحمه الله -، وكان فقيرًا مُقِلًّا، وكان أبوه، وأخوه يعيشان من نقل الحطب على حمارين لهما، وكان أبي تاجرًا في سوق القُمَاش.
فكنت أخدم الشيخ خدمة العبيد الناصحين، فأتيت له صبيحة يوم بارد، فقلت: هل من حاجة؟ قال: نعم، ليس عندنا ماء، ثم أخرج إليّ سَطْلًا من نحاس وقُلَّةً يسعان أربعين رطلًا من الماء، والماء من بيته على مسافة بعيدة، فأتيت بنحو اثنتي عشرة نَقْلَة حتى امتلأ الزِّير، وجميع أواني الدار.
ثم سلمت عليه، وأردت الخروج، وأنا في غاية التعب، قد ابْتَلَّتْ ثيابي، وامتلأت بالطين، وأنا أرتعد من البرد، فلما رأى ما بي، قال: اقعُد حتى أعطيك مسألة جليلة، فقعدت معه.
فقال: ذكر صاحب "الدرّ المكنون" أنه وصل رجل إلى أشبيلية يقصد قراءة الحديث على أبي بكر الحافظ، فلما قرأ عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما لم تصفَرِّ الشمس"، وفي الحلقة جماعة من الطلبة، فيهم أبو بكر الشلوبين، فقال الشيخ: كيف تضبطون الراء من قوله: "ما لم تصفرِّ الشمس"، فقالوا بأجمعهم بالفتح، ما عدا أبا بكر، فإنه بقي ساكتًا.
ثم التفت إلى أبي بكر، وقال: ما تقول أنت؟ فقال: إن العرب على ثلاث فِرَقٍ: مُتْبِعُون، وكاسرون، وفاتحون.
فالمتبعون، يتبعون الحرف المضعّف لحركة الحرف الذي قبله؛ فإن كانت ضمة ضموه، نحو: لم يردُّ، ورُدُّ، وإن كانت فتحة، أو ألفًا فتحوا، نحو: لم يَعَضَّ، وعَضَّ، وقوله تعالى:{لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا}[البقرة: ٢٣٣]، وإن كانت كسرة كسروه، نحو لم يفِرّ، وفِرّ يا عمرو، إلا في ثلاث مواضع، فإنهم لا يتبعون لما قبله.
(أحدها): إذا اتصل بالفعل ضمير مذكر غائب، فإن المتبعين إنما يتبعون