وقد أخرج مسلم من حديث جابر -رضي الله عنه- أن عمر -رضي الله عنه- قال:"افْصِلُوا حجكم من عمرتكم، فإنه أتمّ لحجكم، وأتمّ لعمرتكم"، وفي رواية:"إن الله يُحلّ لرسوله ما شاء، فأتموا الحجّ والعمرة كما أمركم الله". انتهى كلام الحافظ رحمه الله. ومال القرطبيّ رحمه الله إلى أن ما كرهه عمر -رضي الله عنه- هو فسخ الحجّ بعمل العمرة، ونصّه عند قوله:"كرهت أن يظلّوا بهنّ معرسين": يعني أنه كره أن يَحِلّوا من حجهم بالفسخ المذكور، فيطؤون نساءهم قبل تمام الحجّ الذي كانوا أحرموا به، ولا يُظَنّ بمثل عمر -رضي الله عنه- الذي جعل الله الحقّ على لسانه وقلبه أنه منع ما جوّزه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالرأي والمصلحة، فإن ذلك ظنُّ من لم يعرف عمر، ولا فهم استدلالة المذكور في الحديث.
وإنما تمسك بقول الله عز وجل:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}، ففهم أن من تلبّس بشيء منهما وجب عليه إتمامه، ثم ظهر له أن ما أمر به النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أصحابه قضيّة مخصوصة على ما ذكرناه فيما تقدّم، فقضى بخصوصيّة ذلك لأولئك، ثم إنه أطلق الكراهية، وهو يريد بها التحريم، وتجنّب لفظ التحريم؛ لأنه مما أدّاه إليه اجتهاده، وهذه طريقة كبراء الأئمة، كمالك، والشافعيِّ، وكثيرًا ما يقولون: أكره كذا، وهم يريدون التحريم، وهذا منهم تحرّزٌ، وحَذرٌ من قوله تعالى:{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} الآية [النحل: ١٦]. انتهى كلام القرطبيّ رحمه اللهُ.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله القرطبيّ رحمه الله تحقيق حسنٌ، ويؤيّده ما ثبت من أن عمر كان يضرب الناس على هذا، فلولا أنه كان يرى تحريمه لما ضرب الناس عليه.
والحاصل أن تأويل ما ثبت عن عمر -رضي الله عنه- بما ذكر حسنٌ، ولكنه اجتهاد، خالفه فيه جُلّ الصحابة، حيث خالف النصّ الصحيح الصريح، فلا يعوّل عليه، وإن اعتُذر عنه بما ذُكر ففسخ الحج بعمل العمرة مشروع مستمرّ، ينبغي العمل به، كما ذهب إليّه المحققون.
والحديث أخرجه (المصنف) هنا [٢٠/ ٢٩٦١](١٢٢٢)، وهو من أفراده، و (النسائي) في "المجتبى"(٥/ ١٥٣)، و (ابن ماجه) في "سننه"(٢٩٧٩)، و (أحمد) في "مسنده"(١/ ٤٩ و ٥٠)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.