أو إيجابه بحسب درجاته في المصلحة، وجاءت بالمنع من القسم الأول؛ كراهةً أو تحريمًا بحسب درجاته في المفسدة، بقي النظر في القسمين الوسط، هل هما مما جاءت الشريعة بإباحتهما، أو المنع منهما؟ فنقول:
الدلالة على المنع من وجوه:
(الوجه الأول): قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}[الأنعام: ١٠٨]، فحَرَّم الله تعالى سب آلهة المشركين، مع كون السبّ غيظًا وحمية لله، وإهانةً لآلهتهم؛ لكونه ذريعة إلى سبهم لله تعالى، وكانت مصلحة ترك مسبته تعالى أرجح من مصلحة سبّنا لآلهتهم، وهذا كالتنبيه، بل كالتصريح على المنع من الجائز؛ لئلا يكون سببًا في فعل ما لا يجوز.
(الوجه الثاني): قوله تعالى: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ}[النور: ٣١]، فمنعهن من الضرب بالأرجل، وإن كان جائزًا في نفسه؛ لئلا يكون سببًا إلى سمع الرجال صوت الخلخال، فيثير ذلك دواعي الشهوة منهم إليهنّ.
(الوجه الثالث): قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ}[النور: ٥٨]، أَمَر تعالى مماليك المؤمنين، ومن لم يبلغ منهم الحلم، أن يستأذنوا عليهم في هذه الأوقات الثلاثة؛ لئلا يكون دخولهم هَجْمًا بغير استئذان فيها ذريعةً إلى اطّلاعهم على عوراتهم وقت إلقاء ثيابهم عند القائلة والنوم واليقظة، ولم يأمرهم بالاستئذان في غيرها، وإن أمكن في تركه هذه المفسدة؛ لندورها، وقلة الإفضاء إليها، فجعلت كالمقدمة.
(الوجه الرابع): قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا}[البقرة: ١٠٤]، نهاهم سبحانه وتعالى أن يقولوا هذه الكلمة، مع قصدهم بها الخير؛ لئلا يكون قولهم ذريعةً إلى التشبه باليهود في أقوالهم وخطابهم، فإنهم كانوا يخاطبون بها النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، ويقصدون بها السبّ، يقصدون فاعلًا من الرُّعُونة، فَنُهِي المسلمون عن قولها سدًّا لذريعة المشابهة، ولئلا يكون ذلك ذريعةً إلى أن يقولها اليهود للنبيّ - صلى الله عليه وسلم - تشبهًا بالمسلمين، يقصدون بها غير ما يقصده المسلمون.