ولمسلم عن النوّاس بن سمعان -رضي الله عنه-، قال:"أقمت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سنة بالمدينة ما يمنعني من الهجرة إلا المسألة، كان أحدنا إذا هاجر لم يسأل النبيّ -صلى الله عليه وسلم-". ومراده أنه قدم وافدًا، فاستمرّ بتلك الصورة لِيُحَصِّلَ المسائل، خشية أن يخرج من صفة الوفد إلى استمرار الإقامة، فيصير مهاجرًا، فيمتنع عليه السؤال، وفيه إشارة إلى أن المخاطب بالنهي عن السؤال غير الأعراب، وفودًا كانوا، أو غيرهم.
وأخرج أحمد عن أبي أُمامة -رضي الله عنه-، قال: لَمّا نزلت: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} الآية [المائدة: ٥]، كنّا قد اتقينا أن نسأله -صلى الله عليه وسلم-، فأتينا أعرابيًّا، فرشوناه بُردًا، وقلنا: سل النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، ولأبي يعلى عن البراء:"إن كان ليأتي عليّ السَّنَةُ أريد أن أسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الشيء، فأتهيّب، وإن كنّا لنتمنّى الأعراب -أي: قدومهم- ليسألوا، فيسمعوا هم أجوبة سؤالات الأعراب، فيستفيدوها.
وأما ما ثبت في الأحاديث من أسئلة الصحابة -رضي الله عنهم-، فيَحْتَمِل أن يكون قبل نزول الآية، ويَحْتَمِل أن النهي في الآية لا يتناول ما يُحتاج إليه مما تقرّر حكمه، أو ما لهم بمعرفته حاجةٌ راهنةٌ؛ كالسؤال عن الذبح بالقصب، والسؤال عن وجوب طاعة الأمراء، إذا أَمروا بغير الطاعة، والسؤال عن أحوال يوم القيامة، وما قبلها من الملاحم والفتن، والأسئلة التي في القرآن؛ كسؤالهم عن الكلالة، والخمر، والميسر، والقتال في الشهر الحرام، واليتامى، والمحيض، والنساء، والصيد، وغير ذلك، لكن الذين تعلّقوا بالآية في كراهية كثرة المسائل عما لم يقع أخذوه بطريق الإلحاق من جهة أن كثرة السؤال لمّا كانت سببًا للتكليف بما يشقّ، فحقّها أن تُجتنب.
وقد عقد الإمام الدارميّ -رحمه الله- في أوائل "مسنده" لذلك بابًا، وأورد فيه عن جماعة من الصحابة والتابعين آثارًا كثيرةً في ذلك، منها:
عن ابن عمر: "لا تسألوا عما لم يكن، فإني سمعت عمر يلعن السائل عما لم يكن".
وعن عمر: "أحرّج عليكم أن تسألوا عما لم يكن، فإن لنا فيما كان شغلًا".