للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

فادعاء إمكان إحداهما واستحالة الأخرى في غاية السقوط كما ترى؛ لأن كل واحدة منهما رَوَى فيها مسلم في "صحيحه" عن صحابي جليل أن مسألة تتعلق بالفُروج كانت تفعل في زمن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وأبي بكر، وصدرًا من إمارة عمر، ثم غيَّر حكمها عمر، والنسخ ثابت في كل واحدة منهما، وأما غير هذين الأمرين فلا ينبغي أن يقال؛ لأن نسبة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وعبد الله بن عباس - رضي الله عنهما -، وخَلْق من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أنهم تركوا ما جاء به النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وجاءوا بما يخالفه من تلقاء أنفسهم عمدًا غير لائق، ومعلوم أنه باطل بلا شك.

وقد حَكَى غير واحد من العلماء أن الصحابة أجمعوا في زمن عمر على نفوذ الطلاق الثلاث دفعةً واحدةً.

والظاهر أن مراد المدعي لهذا الإجماع هو الإجماع السكوتيّ مع أن بعض العلماء ذَكَرَ الخلاف في ذلك عن جماعة من الصحابة والتابعين، وقد قدّمنا كلام أبي بكر بن العربيّ القائل بأن نسبة ذلك إلى بعض الصحابة كذب بَحْتٌ، وأنه لم يثبت عن أحد منهم جعل الثلاث بلفظ واحد واحدةً، وما ذكره بعض أجلاء العلماء من أن عمر إنما أوقع عليهم الثلاث مجتمعة عقوبةً لهم مع أنه يعلم أن ذلك خلاف ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون في زمن أبي بكر - رضي الله عنه - فالظاهر عدم نهوضه؛ لأن عمر لا يسوغ له أن يحرِّم فرجًا أحله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلا يصح منه أن يَعْلَم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبيح ذلك الفرج بجواز الرجعة، ويتجرأ هو على منعه بالبينونة الكبرى، والله تعالى يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} الآية [الحشر: ٧]، ويقول: {آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: ٥٩]، ويقول: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: ٢١].

والمرويّ عن عمر في عقوبة من فعل ما لا يجوز من الطلاق هو التعزير الشرعيّ المعروف كالضرب، أما تحريم المباح من الفروج فليس من أنواع التعزيرات؛ لأنه يفضي إلى حرمته على من أحله الله له، وإباحته لمن حرمه عليه؛ لأنه إن أُكره على إبانتها، وهي غير بائن في نفس الأمر، لا تحل لغيره؛ لأن زوجها لم يُبِنْها عن طيب نفس، وحكم الحاكم وفتواه لا يحل الحرام في نفس الأمر.