أن ذلك مكروه وقادح، ولعلّهم تمسكوا في ذلك بما قد خرَّجه الترمذيّ من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تتخذوا الضيعة، فتركنوا إلى الدنيا"، خرَّجه من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -، وقال فيه: حديث حسن.
والجواب: أن هذا النهي محمول على الاستكثار من الضياع، والانصراف إليها بالقلب الذي يُفضي بصاحبه إلى الركون للدنيا، فأما إذا اتخذها غير مستكثر، وقفَل منها، وكانت له كفافًا وعفافًا فهي مباحة، غير قادحة في الزهد، وسبيلها كسبيل المال الذي استثناه النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بقوله:"إلا من أخذه بحقه، ووضعه في حقه" رواه مسلم، فأمَّا لو غرس، أو اتخذ الضيعة ناويًا بذلك معونة المسلمين، وثواب ما يؤكل ويتلف له منها، ويفعل بذلك معروفًا، فذلك من أفضل الأعمال، وأكرم الأحوال، ولا بُعْد في أن يقال: إن أَجْرَ ذلك يعود عليه أبدًا دائمًا، وإن مات وانتقلت إلى غيره، ولولا الإكثار لذكرنا فيمن اتخذ الضياع من الفضلاء، والصحابة جملة من صحيح الأخبار. انتهى كلام القرطبيّ - رحمه الله -، وهو بحث مفيد، والله تعالى أعلم.
٣ - (ومنها): أن مقتضى ما في الرواية الآتية بلفظ: "إلا كان له صدقةً إلى يوم القيامة" أن أجر ذلك يستمرّ ما دام الغرس، أو الزرع مأكولًا منه، ولو مات زارعه، أو غارسه، ولو انتقل ملكه إلى غيره.
٤ - (ومنها): أن الثواب المترتِّب على أفعال البرّ في الآخرة يختص بالمسلم دون الكافر؛ لأن القُرَب إنما تصح من المسلم، فإن تصدق الكافر، أو بَنَى قَنْطَرة للمارة، أو شيئًا من وجوه البر لم يكن له أجر في الآخرة، وورد في حديث آخر أنه يُطْعَم في الدنيا بذلك، ويجازى به مِنْ دَفْع مكروه عنه، ولا يُدَّخَر له شيء منه في الآخرة.
[فإن قلت]: قال - صلى الله عليه وسلم - في بعض طرق هذا الحديث:"ما من عبد"، وهو يتناول المسلم والكافر.
[أجيب]: بأنه يُحمَل المطلق على المقيد، قاله في "العمدة"(١).
٥ - (ومنها): أن المرأة تدخل في قوله: "ما من مسلم"؛ لأن هذا اللفظ