وهو تفويض الوصيّة إلى إرادة الموصي، حيث قال:"له شيء يريد أن يوصي فيه"، فلو كانت الوصيّة واجبة، لما علّقها بإرادته.
وأما الجواب عن الرواية التي بلفظ "لا يحلّ" فلاحتمال أن يكون راويها ذكرها، وأراد بنفي الحلّ ثبوت الجواز بالمعنى الأعمّ الذي يدخل تحته الواجب، والمندوب، والمباح.
واختلف القائلون بوجوب الوصيّة، فأكثرهم ذهب إلى وجوبها في الجملة، وعن طاوس، وقتادة، والحسن، وجابر بن زيد في آخرين: تجب للقرابة الذين لا يرثون خاصّة، أخرجه ابن جرير وغيره عنهم، قالوا: فإن أوصى لغير قرابته لم تنفذ، ويردّ الثلث كلّه إلى قرابته، وهذا قول طاوس، وقال الحسن، وجابر بن زيد: ثلثا الثلث، وقال قتادة: ثلث الثلث. وأقوى ما يردّ على هؤلاء ما احتجّ به الشافعيّ من حديث عمران بن حُصين -رضي الله عنهما- في قصّة الذي أعتق عند موته ستّة أعبد له، لم يكن له مالٌ غيرهم، فدعاهم النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فجزّأهم ستّة أجزاء، فأعتق اثنين، وأرقّ أربعة، قال: فجعل عتقه في المرض وصيّة، ولا يقال: لعلّهم كانوا أقارب المعتق؛ لأنا نقول: لم تكن عادة العرب أن تملك من بينها وبينه قرابة، وإنما تملك من لا قرابة له، أو كان من العجم، فلو كانت الوصيّة تبطل لغير القرابة لبطلت في هؤلاء، وهذا استدلالٌ قويّ، والله أعلم.
ونقل ابن المنذر عن أبي ثور أن المراد بوجوب الوصيّة في الآية والحديث، يختصّ بمن عليه حقّ شرعيّ، يَخشَى أن يضيع على صاحبه إن لم يوص به، كوديعة، ودَيْن لله، أو لآدميّ، قال: ويدلّ على ذلك تقييده بقوله: "له شيء يريد أن يوصي فيه"؛ لأنه فيه إشارة إلى قدرته على تنجيزه، ولو كان مؤجّلًا، فإن أراد ذلك ساغ له، وإن أراد أن يوصي به ساغ له.
وحاصله يرجع إلى قول الجمهور: إن الوصيّة غير واجبة لعينها، وإن الواجب لعينه الخروج من الحقوق الواجبة للغير، سواء كانت بتنجيز، أو وصيّة، ومحلّ وجوب الوصيّة إنما هو فيما إذا كان عاجزًا عن تنجيز ما عليه، وكان لم يعلم بذلك غيره، ممن يثبت الحقّ بشهادته، فأما إذا كان قادرًا، أو علم بها غيره، فلا وجوب.