وقال القرطبيّ - رحمه الله -: قوله: "ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء؛ إلا أن يجاهدوا مع المسلمين"؛ يعني: أن من أسلم ولم يجاهد، ولم يهاجر لا يُعطى من الخمس، ولا من الفيء شيئًا، وهذا يتمشى على مذهب مالك في قسمة الخمس، والفيء؛ إذ يرى أن ذلك موكول لاجتهاد الإمام، يضعه حيث يراه من المصالح الضرورية، والأمور المهمة، ومنافع المسلمين العامَّة، ويُؤثِر فيه الأحوج، فالأحوج، والأهم فالأهم، ولا شك أن المهاجرين كانوا في ذلك الوقت أولى به من غيرهم من المسلمين الذين لم يهاجروا، وأقاموا في بلادهم، فإن المهاجرين خرجوا من بلادهم، وأموالهم لله تعالى، ووصلوا إلى المدينة فقراء، ضعفاء، غرباء، فلا شك في أنهم الأَولى.
قال القاضي عياض: ولذلك كان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يُؤثِرهم بالخُمس على الأنصار غالبًا، إلا أن يحتاج أحدٌ من الأنصار، وقد أخذ الشافعي بهذا الحديث في الأعراب، فلم ير لهم شيئًا من الفيء، وإنما لهم الصدقة المأخوذة من أغنيائهم، وتُردّ على فقرائهم، كما أن أهل الجهاد وأجناد المسلمين لا حق لهم في الصدقة عنده، ويُصرف كل مال في أهله، وسوَّى مالك وأبو حنيفة بين المالين، وجوَّزا صرفهما للصنفين، وذهب أبو عبيدة: إلى أن هذا الحديث منسوخ، وأن هذا كان حُكم من لم يهاجِر أولًا، في أنه لا حق له في الفيء، ولا في الموالاة للمهاجر، ولا موارثته، قال الله تعالى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ}[الأنفال: ٧٢]، ثم نُسخ ذلك بقوله تعالى:{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ}[الأنفال: ٧٥]، وبقوله - صلى الله عليه وسلم - بعد فتح مكة:"لا هجرة، ولكن جهاد ونيّة"، وبقوله - صلى الله عليه وسلم -: "المؤمنون تتكافؤ دماؤهم، وهم يدٌ واحدة على من سواهم"، وهذا فيه بُعْد، وسيأتي بيان حكم الخمس والفيء والغنيمة، إن شاء الله تعالى، قال: ومَحْمِل الحديث عند أصحابنا المالكيين على ما تقدَّم من مذهب مالك - رحمه الله -. انتهى (١).
وقوله:(فَإِنْ هُمْ أَبَوْا) هو من باب ما أُضمر عامه على شريطة التفسير، وهو يفيد المبالغة؛ لتكرير الإسناد؛ أي: فإن امتنعوا عن الإسلام (فَسَلْهُمُ) أمرٌ