وهو الذي يُقابل:"ولا تنفروا"؛ لأن السكون ضد النفور، كما أن ضدّ البشارة النذارة، لكن لَمّا كانت النذارة، وهي الإخبار بالشرّ في ابتداء التعليم توجب النفرة، قوبلت البشارة بالتنفير، والمراد: تأليف مَن قَرُب إسلامه، وترك التشديد عليه في الابتداء، وكذلك الزجر عن المعاصي ينبغي أن يكون بتلطف؛ ليُقْبَل، وكذا تعليم العلم ينبغي أن يكون بالتدريج؛ لأن الشيء إذا كان في ابتدائه سهلًا حُبِّب إلى من يدخل فيه، وتلقّاه بانبساط، وكانت عاقبته غالبًا الازدياد، بخلاف ضدّه، والله تعالى أعلم. انتهى (١).
وقال في "العمدة": لا يقال: الأمر بالشيء نهيٌ عن ضدّه، فما الفائدة في قوله:"ولا تعسروا"؛ لأنا نقول: لا نسلّم ذلك، ولئن سلّمنا فالغرض التصريح بما لَزِمَ ضمنًا للتأكيد، ويقال: لو اقتصر على قوله: "يسّروا"، وهو نكرة لصَدَق ذلك على مَن يَسّر مرةً، وعَسَّر في معظم الحالات، فإذا قال:"ولا تعسروا" انتفى التعسير في جميع الأحوال، من جميع الوجوه، وكذلك الجواب عن قوله:"ولا تنفروا"؛ لا يقال: كان ينبغي أن يقتصر على قوله: "ولا تعسروا، ولا تنفروا"؛ لعموم النكرة في سياق النفي؛ لأنه لا يلزم من عدم التعسير ثبوت التيسير، ولا من عدم التنفير ثبوت التيسير، فجَمَع بين هذه الألفاظ؛ لثبوت هذه المعاني؛ لأن هذا المحلّ يقتضي الإسهاب، وكثرة الألفاظ، لا الاختصار؛ لشبهه بالوعظ.
والمعنى: وبشِّروا الناس، أو المؤمنين بفضل الله تعالى، وثوابه، وجزيل عطائه، وسعة رحمته، وكذا المعنى في قوله:"ولا تنفروا": يعني: بذكر التخويف، وأنواع الوعيد، فيُتألَّف مَن قَرُب إسلامه بترك التشديد عليهم، وكذلك مَن قارب البلوغ، من الصبيان، ومن بلغ، وتاب من المعاصي يُتلطف بجميعهم بأنواع الطاعة قليلًا قليلًا، كما كانت أمور الإسلام على التدريج في التكليف شيئًا بعد شيء؛ لأنه متى يُسِّر على الداخل في الطاعة، أو المريد للدخول فيها سَهُلت عليه، وتزايد فيها غالبًا، ومتى عُسِّر عليه أَوْشَكَ أن لا يدخل فيها، وإن دخل أوشك أن لا يدوم، أو لا يستحملها.