(عَنْ أَبِي ذَرٍّ) جُندب بن جُنادة - رضي الله عنه - أنه (قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، أَلَا تَسْتَعْمِلُنِي)"ألا" هنا أداة عَرْض؛ أي: أطلب منك أن تجعلني عاملًا في شيء من الولايات. (قَالَ) أبو ذرّ (فَضَرَبَ) - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِي) هذا الضرب لُطْف، وإيناس، وتحبُّب، (ثُمَّ قَالَ) - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ("يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ ضَعِيفٌ) الظاهر أنه أراد ضعف الرأي والتدبير، لا ضعف الجسم؛ أي: إنك لا تستطيع أن تتحمّل أثقال الولاية، وتكاليفها، (وَإِنَّهَا)؛ أي: الولاية، (أَمَانَةٌ)؛ أي: مما ائتمن الله تعالى بها عباده، وأمرهم أن يؤدّوها إلى مستحقيها، كما قال:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}[النساء: ٥٨]، (وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْي)؛ أي: ذلّ، وصغار حيث يكثر خصماؤه الذين لَمْ يؤدّ إليهم حقوقهم، وخانهم، وغدر بهم، ينادى على رؤوس الأشهاد {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}[هود: ١٨]. (وَنَدَامَةٌ)؛ أي: يندم بها، ويتمنّى أن لو لَمْ يتولّها، (إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا)؛ أي: وهو كونه عالمًا ورعًا، يحتاج الناس إليه في القضاء بينهم؛ لِعَدْله ومعرفته، (وَأَدَّى) الواجب (الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا")؛ أي: في تلك الولاية، وهو القيام بها عن علم، وورع، وتقوى.
قال القرطبيّ - رَحِمَهُ اللهُ -: قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي ذرّ - رضي الله عنه -: "إنك ضعيف"؛ أي: ضعيف عن القيام بما يتعيّن على الأمير؛ من مراعاة مصالح رعيّته الدنيوية والدينية، ووجْهُ ضعف أبي ذرّ عن ذلك أنّ الغالب عليه كان الزهد، واحتقار الدنيا، وتَرْك الاحتفال بها، ومَنْ كان هذا حاله لَمْ يعتنِ بمصالح الدنيا، ولا بأموالها اللذَيْن بمراعاتهما تنتظم مصالح الدِّين، ويتمّ أمره، وقد كان أبو ذرّ أفرط في الزهد في الدنيا، حتى انتهى به الحال إلى أن يُفْتِيَ بتحريم الجمع للمال، وإن أُخْرِجَتْ زكاته، وكان يرى: أنه الكنز الذي توَعَّد اللهُ عليه بِكَيِّ الوجوه والجُنوب والظُّهور، وقد قدّمنا ذلك في "كتاب الزكاة"، فلمّا عَلِمَ النبيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منه هذه الحالة نَصَحَهُ، ونهاه عن الإمارة، وعن ولاية مال الأيتام، وأكَّد النصيحة بقوله:"وإنّي أحبُّ لك ما أحبُّ لنفسي"، وغلَّظَ الوعيد بقوله:"وإنّها - أي: الإمارة - خزيٌّ وندامة"؛ أي: فضيحة قبيحة على مَنْ لَمْ يؤدِّ في الأمانة حقّها، ولم يَقُم لرعيته برعايتها، وندامة على تقلّدها، وعلى تفريطه فيها، وأمّا من عدل