ومنه قولهم: دخل في غُمار الناس وخُمارهم؛ أي: هو في مكان خاف، فلمّا كانت الخمر تستر العقل، وتغطيه سُمّيت بذلك، وقيل: إنما سميت الخمرُ خمرًا لأنها تُرِكت حتى أَدركت، كما يقال: قد اختمر العجين؛ أي: بلغ إدراكه، وخُمِر الرأيُ؛ أي: تُرِك حتى يتبيّن فيه الوجه، وقيل: إنما سميت الخمر خمرًا؛ لأنها تخالط العقل، من المخامرة، وهي المخالطة، ومنه قولهم: دخلت في خُمار الناس؛ أي: اختلطت بهم، فالمعاني الثلاثة متقاربة، فالخمر تُركت وخُمِرت حتى أدركت، ثم خالطت العقل، ثم خمّرته، والأصل الستر.
والخمر ماء العنب الذي غَلَى، أو طُبخ، وما خامر العقل من غيره، فهو في حُكمه؛ لأن إجماع العلماء أن القمار كله حرام، وإنما ذُكر الميسر من بينه فجُعل كله قياسًا على الميسر، والميسر إنما كان قِمارًا في الْجُزُر خاصّة،
فكذلك كل ما كان كالخمر فهو بمنزلتها.
والجمهور من الأمة على أن ما أسكر كثيره، من غير خمر العنب فمحرم قليله وكثيره، والحدّ في ذلك واجب، وقال أبو حنيفة، والثوريّ، وابن أبي ليلى، وابن شُبْرمة، وجماعة من فقهاء الكوفة: ما أسكر كثيره من غير خمر العنب فهو حلال، وإذا سَكِر منه أحد دون أن يتعمد الوصول إلى حدّ السكر، فلا حدّ عليه، وهذا ضعيف، يَرُدُّه النظر، والخبر على ما يأتي بيانه - إن شاء الله تعالى -.
[تنبيه]: قال بعض المفسرين: إن الله تعالى لم يَدَعْ شيئًا من الكرامة والبرّ، إلا أعطاه هذه الأمة، ومن كرامته وإحسانه أنه لم يوجب عليهم الشرائع دفعة واحدة، ولكن أوجب عليهم مرّة بعد مرّة، فكذلك تحريم الخمر، فأول ما نزل في أمر الخمر آية:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} الآية [البقرة: ٢١٩]، ثم بعده:{لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} الآية [النساء: ٤٣]، ثم قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (٩١)} [المائدة: ٩١]، ثم قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠)} [المائدة: ٩٠]، ذَكَره