حاضرًا، ولا أَذِن في ذلك، مع نهيه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مثل هذا بقوله:"لا يحلبن أحدٌ ماشية أحد إلا بإذنه"؟ الحديث.
وقد أجيب عن ذلك بأجوبة:
أحدها: أن ذلك اللَّبن كان تافهًا لا قيمة له، لا سيما مع بُعْدِه عن العمارة، فكأنه إن لم يَشْرَب وإلا تَلِفَ، فيكون هذا من باب قوله في الشَّاة:"هي لك، أو لأخيك، أو للذئب".
قال القرطبيّ: وهذا ليس بشيء؛ لأنَّ الحبَّة من مال الغير لا تحل إلا بطيب نفس منه، وتشبيهها باللقطة فاسدٌ، فإنَّ اللَّبن في الضَّرع محفوظ، كالطَّعام في المشربة، ثم لَمْ يكن على بُعْد من العمران بدليل إدراك سراقة لهم حين سمع أخبارهم من مكة، وخرج من فَوْره، فأدركهم يومه ذلك، على ما تدلُّ عليه قصته في كتب السِّير، واللَّه أعلم.
وثانيها: أن عادة العرب جارية بذلك، فعَمِلا على العادة، وذلك قبل ورود النهي المذكور عن ذلك.
وثالثها: أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان في حاجة وضرورة إلى ذلك، ولا خلاف في جواز مثل ذلك عند الضرورة إذا أمِن على نفسه، وهل يلزمه قيمة ذلك أو لا؟ قولان لأهل العلم.
ورابعها: أن ذلك كان مالًا لكافر، والأصل في أموالهم الإباحة.
قال القرطبيّ: وقد يُمنع هذا الأصل، لا سيما على مذهب من يقول: إن الكافر له شُبهة مُلك، وقد تقدَّم الخلاف في هذا في "الجهاد".
وخامسها: أنهما عَلِما لِمَن هي، فإمَّا أن يكون قد أباح لهما ذلك، أو علما من حاله أنه يطيب قلبه بذلك، وهذا أشبهها، وأبعدها عن الاعتراض -إن شاء اللَّه تعالى-. انتهى (١).
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد أسلفت لك ما هو الراجح عندي خلال كلام النوويّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-، فلا تغفل، واللَّه تعالى أعلم.