ربما آثر بعضهم بعضًا، وقد يكون فيهم من اشتدّ جوعه، حتى يحمله ذلك على القرن بين التمرتين، أو تعظيم اللقمة، فأرشدهم إلى الاستئذان في ذلك؛ تطييبًا لنفوس الباقين، وأما قِصّة جَبَلة بن سُحيم فظاهرها أنها من أجل الغبن، ولكون مُلْكهم فيه سواء، ورُوي نحوه عن أبي هريرة في أصحاب الصفّة. انتهى.
وقد أخرج ابن شاهين في "الناسخ والمنسوخ"، وهو في "مسند البزار" من طريق ابن بُريدة، عن أبيه، رفعه:"كنت نهيتكم عن القران في التمر، وإن الله وسّع عليكم، فاقرنوا"، فلعل النووي أشار إلى هذا الحديث، فإن في إسناده ضعفًا، قال الحازميّ: حديث النهي أصحّ، وأشهر، إلا أن الخطب فيه يسير؛ لأنه ليس من باب العبادات، وإنما هو من قبيل المصالح الدنيوية، فيُكتَفَى فيه بمثل ذلك، ويعضده إجماع الأمة على جواز ذلك، كذا قال، ومراده بالجواز في حال كون الشخص مالكًا لذلك المأكول، ولو بطريق الإذن له فيه، كما قرره النوويّ، وإلا فلم يُجِز أحد من العلماء أن يستأثر أحد بمال غيره بغير إذنه، حتى لو قامت قرينة تدلّ على أن الذي وضع الطعام بين الضيفان لا يرضيه استئثار بعضهم على بعض حَرُم الاستئثار جزمًا، وإنما تقع المكارمة في ذلك إذا قامت قرينة الرضا.
وذكر أبو موسى المدينيّ في "ذيل الغريبين" عن عائشة، وجابر استقباح القِران لِمَا فيه من الشَّرَه والطمع المُزري بصاحبه، وقال مالك: ليس بجميل أن يأكل أكثر من رفقته. انتهى (١).
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن ما تقدّم عن النوويّ من التفصيل هو الأرجح؛ لوضوح حجته، وحاصله: أنه إن كان الطعام مشتركًا بينهم، فالقران حرام، إلا برضاهم، ويحصل بتصريحهم، أو بما يقوم مقامه من قرينة حال إلى آخر كلامه، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: في معنى التمر: الرطب، وكذا الزبيب، والعنب، ونحوهما؛ لوضوح العلة الجامعة، قال القرطبيّ: حَمَل أهل الظاهر هذا النهي على التحريم، وهو سهوٌ منهم، وجهلٌ بمساق الحديث، وبالمعنى، وحَمَله الجمهور
(١) "الفتح" ١٢/ ٣٧١ - ٣٧٢، كتاب "الأطعمة" رقم (٥٣٩٨).