العاقل، كما تقول: وجدتَ مثل تلك الفُرْصة، ثم لم تنتهزها! فالمعنى: ما أبعد لذي العقل أن يسمع بي يهوديّ، ونصرانيّ بعد انتظارهما بعثتي، واستفتاحهما الكفرة بنصرتي، ثم لَمّا بُعثتُ لم يؤمن بي، فعلى هذا التقدير يختصّ الحديث بأهل الكتاب، ولا يحتاج إلى التكلّف في نسبته إلى غيرهم، كما عليه كلام الشارحين.
[فإن قلت]: في الحديث السماع، والإيمان كلاهما منفيّان، فيلزم على هذا أن يكون من لم يسمع، ولم يؤمن من أصحاب النار، وهو خلاف قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}[الإسراء: ١٥]، فكان من حقّ الظاهر أن يقول: يسمع، ولا يؤمن بي.
[أجيب]: بأن "ثمّ" للاستبعاد، فرجع حاصل معنى الاستثناء إلى قولنا: لا يحصل بهذا الاستبعاد المذكور في حقّ يهوديّ، ونصرانيّ، فيكون له حال من الأحوال إلا أن كان من أهل النار، فالمنفيّ سماعٌ لم يترتّب عليه الإيمان؛ لأنه هو المستبعد، وفُهم منه أن السماع الذي يترتّب عليه الإيمان يكون حكمه بالعكس.
ونظيره قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (٢)} [الحجرات: ٢] في أحد وجهيه، وهو أن يكون الفعل المعلَّل منهيًّا، لا أن يكون الفعل المنهيّ معلّلًا، فاعرف، قاله الطيبيّ - رَحِمَهُ اللهُ - (١).
التعبيربـ "ثم" التي للتراخي، والمُهلة فيه إشعار بأن الإيمان ينفع، ولو بعد مدّة من البلاغ، ويحتمل أن يكون لاستبعاد أن يقع الموت بدون إيمان بعد السماع به، فهو كقوله تعالى:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا}[السجدة: ٢٢]، (وَلَمْ يُؤْمِنْ) جملة في محلّ نصب على الحال من فاعل "يموت"(بالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ) ببناء الفعل للمفعول، وقوله:"بالذي" متعلّق بـ "يؤمن"(إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَاب النَّارِ") أي: ممن يدخلها، ويلازمها؛ لكونه ممن حكم الله - سبحانه وتعالى - عليهم بالتأبيد، حيث قال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ