وتصفيته من مواده الرديئة، وتفعل فيه كما تفعل النار في الحديد، في نفي خبثه، وتصفية جوهره، كانت أشبه الأشياء بنار الكير التي تُصَفِّي جوهر الحديد، وهذا القَدْر هو المعلوم عند أطباء الأبدان.
وأما تصفيتها القلب من وسخه، ودَرَنه، وإخراجها خبائثه، فأمْرٌ يعلمه أطباء القلوب، ويجدونه، كما أخبرهم به نبيهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولكن مرض القلب إذا صار ميؤوسًا من برئه لم ينفع فيه هذا العلاج، فالحمى تنفع البدن والقلب، وما كان بهذه المثابة فسبّه ظلم، وعدوان.
قال: وذكرت مرةً وأنا محموم قول بعض الشعراء يسبّها [من الكامل]:
زَارَتْ مُكَفِّرَةُ الذُّنُوبِ وَوَدَّعَتْ … تَبًّا لَهَا مِنْ زَائِرٍ وَمُوَدِّعِ
قَالَتْ وَقَدْ عَزَمْت عَلَى تَرْحَالِهَا … مَاذَا تُرِيدُ فَقُلْتُ أَنْ لَا تَرْجِعِي
فقلت: تبًّا له؛ إذ سبّ ما نَهَى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن سبّه، ولو قال:
زَارَتْ مُكَفِّرَةُ الذُّنُوبِ لِصَبِّهَا … أَهْلًا بِهَا مِنْ زَائِرٍ وَمُوَدِّعِ
قَالَتْ وَقَدْ عَزَمَتْ عَلَى تَرْحَالِهَا … مَاذَا تُرِيدُ فَقُلْتُ أَنْ لَا تُقْلِعِي
لكان أَولى به، ولأقلعت عنه، فأقلعت عني سريعًا.
قال: وقد رُوي في أثر لا أعرف حاله: "حُمَّى يوم كفارةُ سنة"، وفيه قولان:
أحدهما: أن الحمى تدخل في كل الأعضاء، والمفاصل، وعدّتها ثلاثمائة وستون مَفْصِلًا، فتكفّر عنه -بعدد كل مَفْصِل- ذنوب يوم.
والثاني: أنها تؤثّر في البدن تأثيرًا لا يزول بالكلية إلى سنة، كما قيل في قوله -صلى الله عليه وسلم-: "من شَرِب الخمر لم تُقبل له صلاة أربعين يومًا": إن أثر الخمر يبقى في جوف العبد، وعروقه، وأعضائه، أربعين يومًا، والله أعلم.
قال أبو هريرة -رضي الله عنه-: ما من مرض يصيبني أحبّ إلي من الحمى؛ لأنها تدخل في كل عضو مني، وإن الله سبحانه يعطي كل عضو حظه من الأجر.
وقد روى الترمذيّ في "جامعه" من حديث ثوبان -رضي الله عنه- (١)، يرفعه: "إذا
(١) وقول ابن القيّم من حديث رافع بن خديج لعله غلط، فإن الحديث عن الترمذيّ، وأحمد عن ثوبان، فتنبّه.