الرواية الأخرى:"لو شئت أن أَعُدَّ شّمَطاتٍ في رأسه فعلت" ظاهره: أنه لم يكن -صلى الله عليه وسلم- يختضب، كما قد نصَّ عليه في بقية الحديث، وبهذا الظاهر أخذ مالك، فقال: لم يختضب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإليه ذهب أبو عمر بن عبد البرّ، وذهب بعض أصحاب الحديث إلى أنه خَضَب، متمسِّكين في ذلك بما رواه أبو داود عن أبي رِمْثة -رضي الله عنه-: "قال: انطلقت مع أبي نحو النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فإذا هو ذو وَفْرة، وبها ردعٌ من حنَّاء، وعليه بُردان أخضران"، وروى أبو داود أيضًا عن زيد بن أسلم: أن ابن عمر -رضي الله عنهما- كان يصبغ لحيته بالصفرة، حتى تمتلئ ثيابه من الصفرة، فقال: إني رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصبغ بها، ولم يكن شيء أحبَّ إليه منها، وقد كان يصبغ بها ثيابه كلها حتى عمامته. ويعتضد هذا بأمره -صلى الله عليه وسلم- بتغيير الشيب، كما قال:"غيِّروا هذا الشيب، واجتنبوا السواد"، وقال:"غيِّروا الشيب، ولا تشبَّهوا باليهود"، وما كان يأمر بشيء إلا كان أول آخذ به.
ومما يعتضد به ما رواه البخاريّ عن عبد الله بن موهب، قال: دخلت على أم سلمة، فأخرجت لي شعرات من شعر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مخضوبًا، زاد ابن أبي شيبة: بالحناء، والكتم، والإسناد واحد.
ومما يعتضد به هؤلاء خضاب الخليفتين -رضي الله عنهما-، فلو علما أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- لم يختضب قط لَمَا اختضبا، فإنَّهما ما كانا باللذين يعدلان عن سُنَّته، ولا عن اتباعه.
وانفُصِل لهؤلاء من أحاديث أنس، وما في معناها: بأن الخضاب لم يكن منه -صلى الله عليه وسلم- دائمًا، ولا في كل حال؛ وإنَّما كان في بعض الأوقات، فلم يُلتفت لهذه الأوقات القليلة، وأطلق القول، وأَولى من هذا أن يقال: إنه -صلى الله عليه وسلم- لمّا لم يكن شيبه كثيرًا؛ وإنَّما كان في لحيته وصدغيه نحو العشرين شعرة بيضًا، لم يكن الخضاب يظهر فيها غالبًا، والله تعالى أعلم.
وقد اعتذر أصحاب القول الأول عن حديث أبي رمثة وابن عمر -رضي الله عنهم- بأن ذلك لم يكن خضابًا بالحناء؛ بل كان تغييرًا بالطيب، ولذلك قال ابن عمر -رضي الله عنهما-: كان يصبغ بالصفرة، ولم يقل: بالحناء، وهذه الصفرة هي التي قال عنها أبو رمثة: ردع من حناء؛ لأنَّه شبَّهها بها، وأما حديث أم سلمة فيَحْتَمِل أن يكون ذلك فُعِل بشعر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعده بطيب، أو غيره احترامًا، وإكرامًا، والله