للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

أنفسهم عنها؛ يعني: أنهم لم يريدوا العمل بها طلبًا للعزيمة حيث كانت رخصة، (فَبَلَغَهُ)؛ أي: بلغ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- (ذَلِكَ)؛ أي: كراهة هؤلاء، وتنزّههم عما ترخّص فيه، (فَقَامَ) -صلى الله عليه وسلم- حال كونه (خَطِيبًا) للناس، وفي رواية أبي معاوية الآتية: "فَغَضِبَ، حَتَّى بَانَ الْغَضَبُ فِي وَجْهِهِ"، (فَقَالَ: "مَا بَالُ رِجَالٍ) وفي رواية أبي معاوبة: "ما بالُ أقوام(بَلَغَهُمْ عَنِّي أَمْرٌ تَرَخَّصْتُ فِيهِ)؛ أي: أخذت فيه بالرخصة، (فَكَرِهُوهُ) أي: فكرهوا الأخذ برخصتي، (وَتَنَزَّهُوا عَنْهُ؟ " وفي رواية أبي معاوية: "يَرْغَبُونَ عَمَّا رُخِّصَ لِي فِيهِ".

وقال القرطبيّ رَحِمَهُ اللهُ: قوله -صلى الله عليه وسلم-: "ما بال رجال … إلخ" هذا منه -صلى الله عليه وسلم-

عدول عن مواجهة هؤلاء القوم بالعتاب، وكانوا معيَّنين عنده، لكنه فعل ذلك لغلبة الحياء عليه، ولتلطُّفه في التأديب، ولسَتْر المعاتب، وتنزهُ هؤلاء عما ترخص به النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أوقعهم فيه ظنُّ أن المغفور له يُسامَح في بعض الأمور، وتسقط عنه بعض التكاليف، والأمر بالعكس؛ لوجهين:

أحدهما: أن المغفور له يتعيَّن عليه وظيفة الشكر، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "أفلا أكون عبدًا شكورًا؟ "، متفقٌ عليه.

وثانيهما: أن الأعلم بالله تعالى، وبأحكامه هو الأخشى له، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "إني لأعلمكم بالله تعالى، وأشدكم له خشية"، وقال في موضع آخر: "وأعلمكم بما أتقي". انتهى (١).

(فَوَاللهِ لأَنَّا أَعْلَمُهُمْ بِالله، وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً)؛ معناه: أنهم يتوهمون أن رغبتهم عما فعلت أقرب لهبم عند الله تعالى، وليس كما توهموا، بل أنا أعلمهم بالله، وأشدّهم له خشية، وإنما يكون القُرب إليه سبحانه وتعالى والخشية له على حَسَب ما أَمَرَ، لا بمخيّلات النفوس، وتَكَلُّف أعمال لم يأمر بها، والله أعلم (٢).

وقال في "الفتح": أشار -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "أعلمهم" إلى القوّة العلمية، وبقوله: "أشدهم له خشية" إلى القوة العملية؛ أي: أنا أعلمهم بالفضل، وأَولاهم بالعمل به.


(١) "المفهم" ٦/ ١٥٢.
(٢) "شرح النوويّ" ١٥/ ١٠٧.