(فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ)؛ أي: للزبير، (سَرِّحِ الْمَاءَ) فعل أمر من التسريح؛ أي: أطلقه. وقوله:(يَمُرُّ) جملة في محل نصب على الحال من "الماء"؛ أي: حال كونه مارًّا. وإنما قال له ذلك؛ لأن الماء كان يمرّ بأرض الزبير، قبل أرض الأنصاري، فيحبسه؛ لإكمال سقي أرضه، ثم يرسله إلى أرض جاره، فالتمس منه الأنصاري تعجيل ذلك (فَأَبَى عَلَيْهِمْ)؛ أي: فامتنع الزبير على ذلك الرجل، وأصحابه من التسريح قبل إكمال سقي أرضه، (فَاخْتَصَمَا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) مشيرًا إلى الصلح، قبل القضاء ("اسْقِ يَا زُبَيْرُ) بوصل الهمزة، وقطعها، يقال: سقاه، وأسقاه، قال الله تعالى:{وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا}[الإنسان: ٢١]، وقال تعالى:{لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا}[الجن: ١٦].
وزاد في رواية البخاريّ: "فأَمَره بالمعروف"، وهي جملة معترضة من كلام الراوي، وقد أوضحه شعيب في روايته، حيث قال في آخره: "وكان قد أشار على الزبير برأي، فيه سعة له وللأنصاري"، وضبطه الكرماني: "فأَمِرَّهُ" -بكسر الميم، وتشديد الراء- على أنه فعلُ أمْر من الإمرار، وهو مُحْتَمِلٌ.
وقال الخطابي: معناه: أمَرَه بالعادة المعروفة، التي جرت بينهم في مقدار الشرب. انتهى. ويَحْتَمِل أن يكون المراد: أمَره بالقصد، والأمر الوسط؛ مراعاةً للجوار، وهو ظاهر في أنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمَره أوّلًا أن يسامح ببعض حقه، على سبيل الصلح، وبهذا ترجم الإمام البخاريّ في "كتاب الصلح": "إذا أشار الإمام بالمصلحة"، فلمّا لَمْ يَرْضَ الأنصاريّ بذلك، استقصى الحكم، وحَكَم به.
وحكى الخطابيّ أن فيه دليلًا على جواز فسخ الحاكم حكمه، قال: لأنه كان له في الأصل أن يحكم بأيّ الأمرين شاء، فقدَّم الأسهل؛ إيثارًا لحسن الجوار، فلمّا جَهِل الخصم موضع حقه، رجع عن حكمه الأول، وحكم بالثاني؛ ليكون ذلك أبلغ في زجره.
وتُعُقِّب بأنه لَمْ يثبت الحكم أَوّلًا، كما تقدم بيانه، قال: وقيل: بل الحكم كان ما أمر به أولًا، فلمّا لَمْ يقبل الخصم ذلك، عاقبه بما حَكَم عليه به ثانيًا، على ما بَدَر منه، وكان ذلك لمّا كانت العقوبة بالأموال. انتهى.
وقد وافق ابنُ الصباغ من الشافعية على هذا الأخير. قال الحافظ: وفيه نَظَر، وسياق طرق الحديث يابى ذلك كما تري، لا سيما قوله: "واستوفى