عن الله -عَزَّ وَجَلَّ-، قال القرطبيّ -رَحِمَهُ اللهُ- (١): هذا معلوم من حال النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قطعًا بدليل المعجزة، وذلك أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- لَمّا قال للناس: أنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إليكم، أبلغكم ما أرسلني به إليكم من الأحكام، والأخبار عن الدار الآخرة، وغيرها، وأنا صادق في كل ما أخبركم به عنه، ويشهد لي على ذلك ما أيَّدني به من المعجزات، ثم وقعت المعجزات مقرونة بتحدِّيه، علمنا على القطع والبتات استحالة الخطأ والغلط عليه فيما يبلغه عن الله -عَزَّ وَجَلَّ-؛ إما لأن المعجزة تنزلت منزلة قول الله تعالى لنا: صَدَق، أو لأنها تدل على أن الله تعالى أراد تصديقه فيما قاله عنه، دلالة على قرائن الأحوال، وعلى الوجهين فيحصل العلم الضروري بصدقه، بحيث لا يجوز عليه شيء من الخطأ في كل ما يبلغه عن الله تعالى بقوله:"ولكن إذا حدّثتكم عن الله شيئًا، فخذوا به، فإني لن أكذب على الله -عَزَّ وَجَلَّ-"، وأما أمور الدنيا التي لا تعلق لها بالدِّين، فهو فيها واحد من البشر، كما قال:"إنما أنا بشر"، وكما قال:"أنتم أعلم بأمر دنياكم"؛ أي: وأنا أعلم بدينكم، والله تعالى أعلم.
٣ - (ومنها): ما قاله صاحب "التكملة": إن قوله -صلى الله عليه وسلم-: "ولكن إذا حدّثتكم عن الله شيئًا. . . إلخ" تمسّك بعض العلمانيين والإباحيين على أن أحكام السنّة النبويّة في المعاملات ليست من الدِّين، ولا يجب اتّباعها -والعياذ بالله- وهذا جهل وإلحاد صريحٌ، فإن ما قاله -صلى الله عليه وسلم- في تأبير النخل لم يكن حكمًا منه، ولا قضاءً، ولا فتوى، وإنما كان ظنًّا في الأمور المباحة التي تتعلّق بالتجربة والمشاهدة، بدا له من غير رويّة، فأبداه، ولذلك لم ينه المؤبّرين عن التأبير، ولا أمر أحدًا بأن يمنعهم من ذلك، ولو كان يقصد نهيهم عنه شرعًا لخاطبهم بالنهي، أو أرسل إليهم بما يدلّ على النهي، فلما لم يفعل من ذلك شيئًا تبيّن أنه -صلى الله عليه وسلم- اعتبر التأبير أمرًا مباحًا، فائدته مشكوكةٌ في ظنّه، بل قد صرّح الراوي في حديث الباب أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- لَمّا عَلِم بانتهائهم عن هذه العمليّة أفصح عن مراده بقوله:"إن كان ينفعهم ذلك، فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظنًّا، فلا تؤاخذوني بالظنّ".