للإنسان شرف، وعلوّ منزلة وقَدْر، ثم ذلك الشَّرف، وذلك الفضل إما عند الخلق، وإما عند الخالق، فأمَّا الأول: فلا يُلتفت إليه إن لم يُوصِل إلى الشرف المعتبَر عند الخالق، فإذًا: الشرف المعتبر، والفضل المطلوب على التحقيق، إنما هو الذي هو شَرَف عند الله تعالى.
وإذا تقرر هذا؛ فإذا قلنا: إن أحدًا من الصحابة -رضي الله عنهم- فاضل، فمعناه: أن له منزلةً شريفةً عند الله تعالى، وهذا لا يُتوصل إليه بالعقل قطعًا، فلا بدَّ أن يرجع ذلك إلى النقل، والنقل إنما يُتَلَقَّى من الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فإذا أخبرنا الرَّسول -صلى الله عليه وسلم- بشيء من ذلك تلقيناه بالقبول؛ فإنْ كان قطعيًّا حصل لنا العلم بذلك، وإن لم يكن قطعيًّا كان ذلك كسبيل المجتهَدات على ما تقدَّم، وعلى ما ذكرناه في الأصول، وإذا لم يكن لنا طريق إلى معرفة ذلك إلا بالخبر، فلا يَقطع أحد بأن من صدرت منه أفعال دينية، وخصال محمودة، بأن ذلك قد بلَّغه عند الله منزلة الفضل والشرف، فإنَّ ذلك أمر غيب، والأعمال بالخواتيم، والخاتمة مجهولة، والوقوف على المجهول مجهول، لكنَّا إذا رأينا مَن أعانه الله على الخير، ويسَّر له أسباب الخير رجونا له حصول تلك المنزلة عند الله تعالى؛ تمسُّكًا بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أراد الله بعبد خيرًا استعمله في الخير، ووفّقه لعمل صالح"(١)، وبما جاء في الشريعة من ذلك، ومن كان كذلك: فالظَّنُّ أنه لا يخيب، ولا يقطع على المغيب.
وإذا تقرر هذا فالمقطوع بفضله، وأفضليته بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند أهل السُّنَّة -وهو الذي يُقطع به من الكتاب والسُّنَّة- أبو بكر الصِّدِّيق، ثم عمر الفاروق -رضي الله عنهما-، ولم يَختلف في ذلك أحد من أئمة السَّلف، ولا الخلف، ولا مبالاة بأقوال أهل الشيع، ولا أهل البدع، فإنهم بين مُكفَّر تُضرب رقبته، وبين مبتدع مُفسَّق لا تُقبل كلمته، وتُدحَض حُجَّته.
وقد اختَلَف أئمة أهل السُّنَّة في عليّ وعثمان -رضي الله عنهما-؛ فالجمهور منهم على
(١) أخرجه الترمذيّ، وصححه، وصححه أيضًا ابن حبّان، ولفظه: "إذا أراد الله بعبد خيرًا يستعمله"، قيل: "كيف يستعمله يا رسول الله؟ " قال: "يوفقه لعمل صالح قبل الموت".