للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

(وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ") الهجرة بكسر الهاء، وسكون الجيم: ترك الشخص مكالمة الآخر إذا تلاقيا، وهي في الأصل الترك فعلًا كان، أو قولًا، وليس المراد بها مفارقة الوطن، فإن تلك ذُكرت في غير هذا المحلّ.

قال القرطبيّ رحمه الله: دليل خطابه أن الهجرة دون الثلاث معفوّ عنها، وسببه أن البشر لا بدّ له غالبًا من سوء خُلُق وغضب، فسامَحَه الشرع في هذه المدّة؛ لأنَّ الغضب فيها لا يكاد الإنسان ينفك عنه، ولأنه لا يمكنه ردّ الغضب في تلك الحالة غالبًا، وبعد ذلك يضعُف، فيمكن ردّه، بل قد يُمحَى أثره. وظاهر هذا الحديث تحريم الهجرة فوق ثلاث، وقد أكد هذا المعنى قوله: "لا هجرة بعد ثلاث"، وكون المتهاجِرَين لا يُغْفَر لهما حتى يصطلحا. انتهى (١).

وقال النوويّ: قال العلماء: تَحْرُم الهجرة بين المسلمين أكثر من ثلاث ليال بالنصّ، وتباح في الثلاث بالمفهوم، وإنما عُفِي عنه في ذلك؛ لأن الآدميّ مجبول على الغضب، فسومح بذلك القدر؛ ليرجع، ويزول ذلك العارض.

وقال أبو العباس القرطبيّ: المعتبَر ثلاث ليال، حتى لو بدأ بالهجرة في أثناء النهار ألغي البعض، وتُعتبَر ليلة ذلك اليوم، وينقضي العفو بانقضاء الليلة الثالثة.

وتعقّبه الحافظ، قائلًا: وفي الجزم باعتبار الليالي دون الأيام جمود، فقد جاء في رواية بلفظ: "ثلاثة أيام"، فالمعتمَد أن المرخَّص فيه ثلاثة أيام بلياليها، فحيث أُطلقت الليالي أريد بأيامها، وحيث أُطلقت الأيام أريد بلياليها، ويكون الاعتبار مضيّ ثلاثة أيام بلياليها ملفّقةً؛ إذا ابتدئت مثلًا من الظهر يوم السبت، كان آخرها الظهر يوم الثلاثاء، ويَحْتَمِل أن يُلْغَى الكسر، ويكون أول العدد من ابتداء اليوم أو الليلة، والأول أحوط. انتهى (٢)، والله تعالى أعلم.


(١) "المفهم" ٦/ ٥٣٢ - ٥٣٣.
(٢) "الفتح" ١٣/ ١٤٣ - ١٤٤، كتاب "الأدب" رقم (٦٠٧٧).