للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

قال الجامع عفا الله عنه: هذا جمع وجيهٌ يَجمع الأقوال، فتمسّك به، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

قال: والألفاظ الثابتة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - هي مطلقة، أو مقيّدة بالفؤاد، تارةً يقول: رأى محمد ربّه، وتارةً يقول: رآه محمد، ولم يثبت عن ابن عبّاس لفظ صريحٌ بأنه رآه بعينه، وكذلك الإمام أحمد تارةً يُطلق الرؤية، وتارةً يقول: رآه بفؤاده، ولم يقل أحد: إنه سمع أحمد يقول: رآه بعينه، لكن طائفة من أصحابه سمعوا بعض كلامه المطلق، ففهموا منه رؤية العين، كما سمع بعض الناس مطلق كلام ابن عبّاس، ففهم منه رؤية العين، وليس في الأدلّة ما يقتضي أنه رآه بعينه، ولا ثبت ذلك عن أحد من الصحابة - رضي الله عنهم -، ولا في الكتاب والسنّة ما يدلّ على ذلك، بل النصوص الصحيحة على نفيه أدلّ، كما في "صحيح مسلم" عن أبي ذرّ - رضي الله عنه - قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل رأيت ربّك؟ فقال: "نورٌ أَنَّى أراه؟ "، وقد قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١)} [الإسراء: ١]، ولو كان أراه نفسه بعينه، لكان ذكر ذلك أولي، وكذلك قوله تعالى: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (١٨)} [النجم: ١٨]، ولو كان رآه بعينه لكان ذكر ذلك أولى.

وفي "الصحيحين" عن ابن عبّاس - رضي الله عنهما - في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} [الإسراء: ٦٠] قال: هي رؤيا عين أريها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة أُسري به، وهذه رؤيا الآياتِ؛ لأنه أخبر الناس بما رآه بعينه ليلة المعراج، فكان ذلك فتنة لهم، حيث صدّقه قوم، وكذّبه قوم، ولم يُخبرهم بأنه رأى ربّه بعينه، وليس في شيء من أحاديث المعراج الثابتة ذكر ذلك، ولو كان قد وقع ذلك، لذكره، كما ذكر ما دونه.

وقد ثبت بالنصوص الصحيحة، واتفاق سلف الأمة أنه لا يرى الله أحد في الدنيا بعينه، إلَّا ما نازع فيه بعضهم من رؤية نبيّنا محمد - صلى الله عليه وسلم - خاصّةً، واتّفقوا على أن المؤمنين يرون الله تعالى يوم القيامة عِيانًا، كما يرون الشمس والقمر. انتهى كلام شيخ الإسلام - رَحِمَهُ اللهُ - (١)، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، وبحثٌ أنيسُ،


(١) "مجموع الفتاوى" ٦/ ٥٠٧ - ٥١٠.