للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

وجواب أقطعُ من هذا، وهو أنه سبحانه لم يقل: وكلٌّ راسخ، فيجب هذا، فإذا لم يعلمه أحد عَلِمه الآخر.

ورجح ابن فُورَك أن الراسخين يعلمون التأويل، وأطنب في ذلك، وفي قوله - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس: "اللَّهُمَّ فقِّهه في الدِّين، وعلِّمه التأويل" ما يبيّن لك ذلك؛ أي: علّمه معانيَ كتابك، والوقف على هذا يكون عند قوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}، قال شيخنا أبو العباس أحمد بن عمر (١): وهو الصحيح، فإن تسميتهم راسخين يقتضي أنهم يعلَمون أكثر من المحكم الذي يستوي في علمه جميع من يَفهَم كلام العرب، وفي أي شيء هو رسوخهم إذا لم يعلموا إلا ما يَعلم الجميع؟ لكن المتشابه يتنوع، فمنه ما لا يُعلَم البتة، كأمر الروح والساعة، مما استأثر الله بغيبه، وهذا لا يتعاطى عِلمه أحدٌ، لا ابن عباس ولا غيره.

فمن قال من العلماء الْحُذّاق بأن الراسخين لا يعلمون علم المتشابه، فإنما أراد هذا النوع، وأما ما يمكن حَمْله على وجوه في اللغة، ومَنَاحٍ في كلام العرب فيُتَأوّل، ويعلَم تأويله المستقيم، ويزال ما فيه مما عسى أن يتعلق من تاويل غير مستقيم، كقوله في عيسى: {وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: ١٧١]، إلى غير ذلك، فلا يُسمّى أحدٌ راسخًا إلا بأن يعلم من هذا النوع كثيرًا بحسب ما قُدِّر له، وأما من يقول: إن المتشابه هو المنسوخ، فيستقيم على قوله إدخال الراسخين في علم التأويل، لكن تخصيصه المتشابهات بهذا غير صحيح. انتهى (٢).

وذكر الحافظ ابن كثير -رحمه الله- بعد ذِكر القولين المتقدّمين ما نصّه: من العلماء من فَصّلَ هذا المقام، قال: التأويل يُطلَق، ويراد به في القرآن معنيان: أحدهما: التأويل بمعنى حقيقة الشيء، وما يؤول أمره إليه، ومنه قوله تعالى: {وَقَالَ يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} [يوسف: ١٠٠]، وقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} [الأعراف: ٥٣] أي: حقيقة ما أُخبِروا به من أمر المعاد،


(١) هو شيخه القرطبيّ، صاحب كتاب "المفهم"، المتوفّى سنة ٦٥٦ هـ.
(٢) "الجامع لأحكام القرآن" ٤/ ١٦ - ١٨.