الجدل"، ثم تلا تلك الآية:{مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ}[الزخرف: ٥٨](١).
٢ - (ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه اللهُ: هذا الخصم المبغوض عند الله تعالى هو الذي يقصد بخصومته مدافعة الحق، وردّه بالأوجه الفاسدة، والشُّبَهِ الموهمة، وأشد ذلك الخصومة في أصول الدين، كخصومة أكثر المتكلمين، المعرضين عن الطرق التي أرشد إليها كتاب الله تعالى، وسُنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وسَلَف أمته إلى طُرُق مبتدعة، واصطلاحات مخترعة، وقوانين جدلية، وأمور صناعية، مدار أكثرها على مباحث سوفسطائية، أو مناقشات لفظية، تَرِد بسببها على الآخذ فيها شُبَهٌ، ربما يَعجَز عنها، وشكوك يذهب الإيمان معها، وأحسنهم انفصالًا عنها أجدلهم، لا أعلمهم، فكم من عالم بفساد الشبهة لا يقوى على حَلِّها، وكم من منفصل عنها لا يُدرك حقيقة علمها، ثم إن هؤلاء المتكلّمين قد ارتكبوا أنواعًا من المحال، لا يرتضيها الْبُلْهُ، ولا الأطفال، لَمّا بحثوا عن تَحَيُّز الجواهر، والألوان، والأحوال، ثم إنهم أخذوا يبحثون فيما أمسك عنه السلف الصالح، ولم يوجد عنهم بحثٌ واضح، وهو كيفية تعلقات صفات الله تعالى، وتعديدها، واتحادها في نفسها، وهل هي الذات أو غيرها؟، وفي الكلام، هل هو متحد، أو منقسم؟، وعلى الثاني: هل ينقسم بالنوع، أو الوصف؟، وكيف تعلَّق في الأزل بالمأمور، مع كونه حادثًا؟، ثم إذا انعدم المأمور، فهل يبقى ذلك التعلق؟، وهل الأمر لزيد بالصلاة مثلًا، هو نفس الأمر لعمرو بالزكاة؟ إلى غير ذلك من الأبحاث المبتدعة، التي لم يأمر الشارع بالبحث عنها، وسكت عنها الصحابة - رضي الله عنهم -، ومن سلك سبيلهم، بل نهوا عن الخوض فيها؛ لِعِلمهم بأنه بحث عن كيفية ما لا تُعلم كيفيته بالعقل، لكون العقول لها حدّ تقف عنده، وهو العجز عن التكييف، لا يتعدّاه، ولا فرق بين البحث عن كيفية الذات، وكيفية الصفات، ولذلك قال العليم الخبير:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}[الشورى: ١١]، ومن توقف في هذا، فليعلم أنه إذا كان حُجِب عن كيفية نفسه، مع وجودها، وعن كيفية إدراك ما يُدرك به، فهو عن إدراك غيره أعجز.