النصوص التي لم يجدوا إلى ردّ ألفاظها سبيلًا، فقابلوا النوع الأول بالتكذيب، والنوع الثاني بالتحريف والتأويل، فأنكروا لذلك رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة، وأنكروا كلامه، وتكليمه لعباده، وأنكروا مُباينته للعالم، واستواءه على عرشه، وعُلُوّه على المخلوقات، وعموم قدرته على كل شيء، بل أخرجوا أفعال عباده من الملائكة والأنبياء والجنّ والإنس عن تعلّق قدرته ومشيئته وتكوينه لها، ونَفَوا لأجلها حقائق ما أخبر به سبحانه وتعالى عن نفسه، وأخبر به رسوله - صلى الله عليه وسلم - من صفات كماله، ونعوت جلاله، وحَرَّفوا لأجلها النصوص عن مواضعها، وأخرجوها عن معانيها وحقائقها بالرأي المجرّد الذي حقيقته أنه ذُبالة (١) الأذهان، ونُخالة الأفكار، وعُفارة الآراء، ووساوس الصدور، فملؤوا به الأوراق سوادًا، والقلوب شكوكًا، والعالم فسادًا.
وكلُّ من له مُسكة من عقل يَعلَم أن فساد العالم وخرابه إنما نشأ من تقديم الرأي على الوحي، والهوى على العقل، وما استَحكَم هذان الأصلان الفاسدان في قلب إلا استَحكَم هلاكه، ولا أمّة إلا فسد أمرُها أتمّ فساد، فلا إله إلا الله كم نُفي بهذه الآراء من حقّ، وأُثبت بها من باطل، وأُميت بها من هُدى، وأُحيي بها من ضلالة؟ وكم هُدم بها من مَعْقِل الإيمان، وعُمِّر بها من دِين الشيطان؟ وأكثر أصحاب الجحيم هم أهل هذه الآراء الذين لا سَمْع لهم ولا عقل، بل هم شرّ من الْحُمُر، وهم الذين يقولون يوم القيامة:{لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَو نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}[الملك: ١٠].
[النوع الرابع]: الرأي الذي أُحدثت به البدع، وغُيّرت به السنن، وعَمَّ البلاء، وتربّى عليه الصغير، وهَرِمَ فيه الكبير.
فهذه الأنواع الأربعة من الرأي الذي اتّفق سلف الأمة، وأئمتها على ذمّه، وإخراجه من الدِّين.
[النوع الخامس]: ما ذكره أبو عمر بن عبد البرّ عن جمهور أهل العلم، أن الرأي المذموم في هذه الآثار عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وعن أصحابه والتابعين - رضي الله عنهم - أنه القول في أحكام شرائع الدين بالاستحسان والظنون، والاشتغال بحفظ
(١) الذُّبالة بالضم: فتيلة السراج. قاله في "اللسان".