حرمته مع اجتنابه، ويحتمل أن يُراد بتحليل الحلال إتيانه، ويكون الحلال ههنا عبارةً عما ليس بحرام، فدخل فيه الواجب والمستحب والمباح، ويكون المعنى أنه يَفْعَلُ ما ليس بمحرم عليه، ولا يتعدى ما أبيح له إلى غيره، ويجتنب المحرمات.
وقد رُوي عن طائفة من السلف منهم ابن مسعود وابن عباس - رضي الله عنهم - في قوله عز وجل:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} الآية [البقرة: ١٢١]، قالوا: يُحِلُّون حلاله، ويحرمون حرامه، ولا يُحَرِّفونه عن مواضعه (١).
والمراد بالتحريم والتحليل: فعلُ الحلال، واجتناب الحرام، كما ذكر في هذا الحديث، وقد قال الله تعالى في حق الكفار الذين كانوا يُغَيِّرُون تحريم الشُّهُور الْحُرُم:{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} الآية [التوبة: ٣٧]، والمراد أنهم كانوا يقاتلون في الشهر الحرام عامًا، فيحلونه بذلك، ويمتنعون من القتال فيه عامًا، فيُحَرِّمونه بذلك.
وقال الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا} [المائدة: ٨٧ - ٨٨]، وهذه الآية نزلت بسبب قوم امتنعوا من تناول بعض الطيبات زُهْدًا في الدنيا وتَقَشُّفًا، وبعضهم حَرَّمَ ذلك على نفسه، إما بيمين حَلَف بها، أو بتحريمه على نفسه، وذلك كله لا يوجب تحريمه في نفس الأمر، وبعضهم امتنع منه من غير يمين ولا تحريم، فسمى الجميع تحريمًا، حيث قصد الإمتناع منه إضرارًا بالنفس، وكفًّا لها عن شهواتها، ويقال في الأمثال: فلانٌ لا يُحَلِّلُ ولا يُحَرِّم، إذا كان لا يمتنع من فعل حرام، ولا يقف عند ما أبيح له، وإن كان يعتقد تحريم الحرام، فيجعلون مَن فَعَلَ الحرام، ولا يتحاشى منه مُحَلِّلًا، وإن كان لا يعتقد حله.
(١) رواه الطبريّ في "تفسيره" عن ابن عباس، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، ورواه عبد الرزاق في "تفسيره" بإسناد صحيح، عن ابن مسعود - رضي الله عنه -.