للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

فاستدعى بمعصيته من أفعاله ما سواه أحب إليه منه، وخلاف ما هو من لوازم ذاته من الجود والإحسان، فبينما هو حبيبه المقرب المخصوص بالكرامة إذ انقلب آبقًا شاردًا رادًّا لكرامته، مائلًا عنه إلى عدوه مع شدة حاجته إليه، وعدم استغنائه عنه طرفة عين، فبينما ذلك الحبيب مع العدو في طاعته وخدمته ناسيًا لسيده، منهمكًا في موافقة عدوه، قد استدعى من سيده خلاف ما هو أهله؛ إذ عرضت له فكرة فتذكر بِرّ سيده وعطفه وَجُوده وكرمه، وعلم أنه لا بد له منه، وأن مصيره إليه، وعَرْضه عليه، وأنه لم يقدم عليه بنفسه قدم به عليه، على أسوأ الأحوال، ففر إلى سيده من بلد عدوه وَجَدّ في الهرب إليه حتى وصل إلى بابه، فوضع خده على عتبة بابه، وتوسد ثرى أعتابه، متذللًا متضرعًا خاشعًا باكيًا آسفًا، يتملق سيده، ويسترحمه، ويستعطفه، ويعتذر إليه، قد ألقى بيده إليه، واستسلم له وأعطاه قياده، وألقى إليه زمامه، فعلم سيده ما في قلبه، فعاد مكان الغضب عليه رضًا عنه، ومكان الشدة عليه رحمة به، وأبدله بالعقوبة عفوًا، وبالمنع عطاءً وبالمؤاخذة حلمًا، فاستدعى بالتوبة والرجوع من سيده ما هو أهله، وما هو موجب أسمائه الحسنى وصفاته العلى، فكيف يكون فرح سيده به، وقد عاد إليه حبيبه ووليه طوعًا واختيارًا، وراجع ما يحبه سيده منه ويرضاه، وفَتَح طريق البر والإحسان والجود التي هي أحب إلى سيده من طريق الغضب والانتقام والعقوبة؟

وهذا موضع الحكاية المشهورة عن بعض العارفين أنه حصل له شرود وإباق عن سيده، فرأى في بعض السكك بابًا قد فُتح وخرج منه صبي يستغيث ويبكي، وأمه خلفه تطرده، حتى خرج، فأغلقت الباب في وجهه ودخلت، فذهب الصبي غير بعيد، ثم وقف مفكرًا فلم يجد له مأوى غير البيت الذي أُخرج منه، ولا من يؤويه غير والدته، فرجع مكسور القلب حزينًا فوجد الباب مُرتجًا فتوسده، ووضع خده على عتبة الباب ونام فخرجت أمه، فلما رأته على تلك الحالة لم تملك أن رمت نفسها عليه والتزمته تقبله وتبكي وتقول: يا ولدي أين تذهب عني ومن يؤويك سواي؟ ألم أقل لك: لا تخالفني ولا تحملني بمعصيتك لي على خلاف ما جُبلت عليه من الرحمة لك والشفقة عليك وإرادتي الخير لك؟ ثم أخذته ودخلت، فتأمل قول الأم: لا تحملني بمعصيتك لي على