للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

جنس الإنسان من جنس العلق، وإذا كان المراد بقوله: {الَّذِي خَلَقَ} كل المخلوقات، فيكون تخصيص الإنسان بالذكر تشريفًا له؛ لِمَا فيه من بديع الخلق، وعجيب الصنع، وإذا كان المراد بالذي خلق: الذي خلق الإنسان فيكون الثاني تفسيرًا للأول، والنكتة ما في الإبهام، ثم التفسير من التفات الذهن وتطلعه إلى معرفة ما أُبهم أوّلًا، ثم فسرّ ثانيًا. ثم كرر الأمر بالقراءة للتأكيد والتقرير، فقال: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) أي: افعل ما أمرت به من القراءة، وجملة: {وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} مستأنفة لإزاحة ما اعتذر به -صلى الله عليه وسلم- من قوله: "ما أنا بقارئ" يريد أن القراءة شأن من يكتب، ويقرأ، وهو أميّ. فقيل له: اقرأ، وربك الذي أمرك بالقراءة هو الأكرم. قال الكلبي: يعني: الحليم عن جهل العباد، فلم يعجل بعقوبتهم. وقيل: إنه أمره بالقراءة أوّلًا لنفسه، ثم أمره بالقراءة ثانيًا للتبليغ، فلا يكون من باب التأكيد، والأوّل أَولى.

{الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) أي: علّم الإنسان الخط بالقلم، فكان بواسطة ذلك يقدر على أن يعلم كل مكتوب. قال الزجاج: علّم الإنسان الكتابة بالقلم.

قال قتادة: القلم نعمة من الله -عَزَّ وَجَلَّ- عظيمة، لولا ذلك لم يَقُم دين، ولم يصلح عيش. فدلّ على كمال كرمه بأنه علّم عباده ما لم يعلموا، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم، ونبّه على فضل علم الكتابة لِمَا فيه من المنافع العظيمة التي لا يحيط بها إلّا هو، وما دوّنت العلوم، ولا قيَّدت الحِكَم، ولا ضُبطت أخبار الأوّلين ومقالاتهم، ولا كُتُب الله المنزلة إلّا بالكتابة، ولولا هي ما استقامت أمور الدين، ولا أمور الدنيا، وسمِّي قلمًا لأنه يُقْلَم؛ أي: يقطع.

{عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (٥)} هذه الجملة بدل اشتمال من التي قبلها؛ أي: علّمه بالقلم من الأمور الكلية والجزئية ما لم يعلم به منها. قيل: المراد بالإنسان هنا: آدم كما في قوله: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: ٣١]. وقيل: الإنسان هنا: رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والأَولى حمل الإنسان على العموم، والمعنى: أن من علّمه الله سبحانه من هذا الجنس بواسطة القلم فقد علّمه ما لم يعلم (١)، والله تعالى أعلم.


(١) "فتح القدير" للشوكانيّ -رَحِمَهُ اللهُ-٨/ ٢٩.