للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

بوساوسهم، ومعنى اجتالتهم: أجالتهم؛ أي: صرفتهم عن مقتضى الفطرة الأصلية، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "حتى يكون أبواه هما اللذان يهوِّدانه، أو ينصّرانه، أو يمجسانه"، وفي الرواية الأخرى: "حتى يُعبّر عنه لسانه"؛ يعني: بما يُلقي إليه الشيطان من الباطل، والفساد المناقض لفطرة الإسلام. انتهى (١).

(وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ)؛ أي: من البحيرة، والسائبة، وغيرهما، وتوضيحه ما حققه القاضي، حيث قال: قوله: "كل مال نحلته" حكاية ما أعلمه الله تعالى، وأوحى إليه في يومه هذا، والمعنى: ما أعطيت عبدًا من مال، فهو حلال له، ليس لأحد أن يحرِّم عليه، وليس لقائل أن يقول: هذا يقتضي أن لا يكون الحرام رزقًا؛ لأن كل رزق ساقه الله تعالى إلى عبد نَحَله، وأعطاه، وكل ما نحله، وأعطاه فهو حلال، فيكون كل رزق رزقه الله إياه فهو حلال، وذلك يستلزم أن يكون كل ما ليس بحلال ليس برزق؛ لأنا نقول: الرزق أعمّ من الإعطاء، فإنه يتضمن التمليك، ولذا قال الفقهاء: لو قال لامرأته: إن أعطيتني ألفًا فأنت طالق، فأعطته ألفًا بانت، ودخل الألف في ملكه، ولا كذلك الرزق. انتهى (٢).

(وَأَمَرَتْهُمْ)؛ أي: أمرت الشياطين العباد الحنفاء (أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا)؛ أي: إشراكًا، أو شيئًا (لَمْ أُنْزِلْ) من الإنزال، (به)؛ أي: بوجوده (سُلْطَانًا)؛ أي: حجةً وبرهانًا، سُمي به؛ لتسلطه على القلوب عند هجوم الخواطر عليها بالقهر والغلبة، والمعنى: ما ليس على إشراكه دليل عقليّ، ولا نقليّ، إذ لو كان أحدهما لبيَّنه -سبحانه وتعالى-، بل أمر بخلافه، حيث قال: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: ٢٣]، والقرآن الكريم مشحون بالأدلة على بطلان الإشراك بالله تعالى، قال القاضي: "ما" مفعول "يشركوا"، يريد به الأصنام، وسائر ما عُبد من دون الله تعالى؛ أي: أمَرَتهم بالإشراك بالله بعبادة ما لم يأمر الله بعبادته، ولم ينصب دليلًا على استحقاقه للعبادة، وقال الطيبيّ -رحمه الله-: "ما لم أنزل به سلطانًا"؛ أي: لا إنزال سلطان ولا شريك على أسلوب قوله:

عَلَى لَاحِبٍ لَا يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ


(١) "المفهم" ٦/ ٧١٢.
(٢) "مرقاة المفاتيح" ٩/ ٥٥٤.