للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

وقوله: (يَقُولُونَ: إِنَّ مَعَهُ الطَّعَامَ، وَالأَنْهَارَ) هذا يدلّ على أن المغيرة كان قد سمع هذا الأمر عن الدَّجال من غير النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ولم يحققه، فعرض ذلك على النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأجابه بقوله: "هو أهون على اللَّه من ذلك"، وظاهر هذا الكلام: أن الدَّجال لا يُمَكَّن من ذلك؛ لهوانه على اللَّه، وخسة قدره، غير أن هذا المعنى قد جاء ما يناقضه في أحاديث الدجال الآتية، فَيَحْتَمِل أن يكون هذا القول صدر عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- قبل أن يوحى إليه بما في تلك الأحاديث، ويَحْتَمِل أن يعود الضمير إلى تمكين الدجال من أنهار الماء، وجبال الخبز؛ أي: فِعل ذلك على اللَّه هيّن، والأوَّل أسبق، والثاني لا يمتنع، واللَّه تعالى أعلم، قاله القرطبيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- (١).

وقوله: (قَالَ: "هُوَ أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ") قال القاضي عياض -رَحِمَهُ اللَّهُ- (٢): معناه: هو أهون من أن يَجعل ما يَخلقه على يديه مضلًّا للمؤمنين، ومشكّكًا لقلوب الموقنين، بل ليزداد الذين آمنوا إيمانًا، ويرتاب الذين في قلوبهم مرض، فهو مثل قول الذءيا يقتله: ما كنت أشدّ بصيرةً مني فيك، لا أن قوله: "هو أهون على اللَّه من ذلك" إنه ليس شيء من ذلك معه، بل المراد: أهون من أن يجعل شيئًا من ذلك آيةً على صدقه، ولا سيما، وقد جُعل فيه آية ظاهرة في كَذِبه، وكفره، يقرأها من قرأ، ومن لا يقرأ، زائدة على شواهد كذبه، من حَدَثِه، ونقصه.

قال الحافظ: الحامل على هذا التأويل أنه ورد في حديث آخر مرفوع: "ومعه جبل من خبز، ونهر من ماء"، أخرجه أحمد، والبيهقيّ في "البعث" من طريق جُنادة بن أبي أمية، عن مجاهد، قال: انطلقنا إلى رجل من الأنصار، فقلنا: حدّثنا بما سمعت من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في الدجال، ولا تحدّثنا عن غيره، فذكر حديثًا فيه: "تُمْطَرُ الأرضُ، ولا يَنبُتُ الشجر، ومعه جنة، ونار، فناره جنة، وجنته نار، ومعه جبل خبز. . . " الحديث بطوله، ورجاله ثقات، ولأحمد من وجه آخر عن جنادة، عن رجل من الأنصار: "معه جبال الخبز، وأنهار الماء"، ولأحمد من حديث جابر: "معه جبال من خبز، والناس في جَهد إلا من تبعه، ومعه نهران. . . " الحديث.

فدلّ ما ثبت من ذلك على أن قوله: "هو أهون على اللَّه من ذلك" ليس المراد به ظاهره، وأنه لا يَجعل على يديه شيئًا من ذلك، بل هو على التأويل


(١) "المفهم" ٥/ ٤٧٢.
(٢) "إكمال المعلم" ٧/ ٢٧.