للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

وقال القرطبيّ - رحمه الله -: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّهُمَّ اجعل رزق آل محمد قوتًا"؛ أي: كفافًا، كما جاء في الرواية الأخرى، ويعني به: ما يقوت الأبدان، ويكفّ عن الحاجة، والفاقة، وهذا الحديث حجة لمن قال: إن الكفاف أفضل من الغنى، والفقر، وقد تقدَّمت هذه المسألة في "الزكاة". ووجه التمسك بهذا الحديث: أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - إنما يدعو لنفسه بأفضل الأحوال، وأيضًا فإنَّ الكفاف حالة متوسطة بين الغنى والفقر، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "خير الأمور أوساطها" (١)، وأيضًا: فإنَّ هذه الحال سليمة من آفات الغنى، وآفات الفقر المدقع، فكانت أفضل منها، ثم إن حالة صاحب الكفاف حالة الفقير؛ إذ لا يترفه في طيّبات الدنيا، ولا في زهرتها، فكانت حاله إلى الفقر أقرب، فقد حصل له ما حصل للفقير من الثواب على الصبر، وكُفِيَ مرارته وآفاته.

لا يقال: فقد كانت حالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الفقر الشديد المدقع، كما دلَّت عليه أحاديث هذا الباب وغيرها، ألا ترى أنه يطوي الأيام، ولا يشبع يومين متواليين، ويشدّ على بطنه الحجر من الجوع والحجرين، ولم يكن له سوى ثوب واحد، فإذا غسله انتظره إلى أن يجفّ، وربما خرج، وفيه بقع الماء، ومات ودرعه مرهونة في شعير لأهله، ولم يخلّف دينارًا ولا درهمًا، ولا شاة، ولا بعيرًا، ولا حاله في الفقر أشدّ من هذه، وعلى هذا فلم يكن حاله الكفافَ، بل: الفقر، فلم يُجبه الله تعالى في الكفاف؛ لعلمه بأن الفقر أفضل له؛ لأنَّا نقول: إن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قد جمع له حال الفقر، والغنى، والكفاف، فكان أول أحواله الفقر مبالغةً في مجاهدة النفس، وخطامها عن مألوفات عاداتها، فلما حصلت له مَلَكة ملَكَها، وتخلّص له خلاصة سَبَكها، خيّره الله تعالى في أن يجعل له جبال تهامة ذهبًا، تسير معه حيث سار، فلم يلتفت إليها، وجاءته فتوحات الدنيا، فلم يعرّج عليها، بل صرفها، وانصرف عنها، حتى قال: "ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخُمس، والخمس مردود فيكم" (٢). وهذه حالة الغني الشاكر، ثم اقتصر من ذلك كله على قَدْر ما يردّ ضروراته، وضرورات


(١) حديث ضعيف، كما ذكره العجلونيّ في "كشف الخفا" ١/ ٤٦٩.
(٢) حديث صحيح.