(أَنَّ رَجُلًا) لم يُعرف، (جَعَلَ)؛ أي: شرع وأخذ (يَمْدَحُ عُثْمَانَ) بن عفّان - رضي الله عنه -، (فَعَمَدَ) بفتح الميم، من باب ضرب؛ أي: قصد (الْمِقْدَادُ) - رضي الله عنه - (فَجَثَا)؛ أي: برك (عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَكانَ) المقداد (رَجُلًا ضَخْمًا)؛ أي: عظيم الجثّة، وكأن الراوي ذكر هذا لبيان أنه مع كونه جسيمًا تكبّد مشقة الجثو على ركبتيه اهتمامًا بشأن تنفيذ أمره - صلى الله عليه وسلم -، (فَجَعَلَ)؛ أي: شرع (يَحْثُو) بالواو، ويقال بالياء أيضًا، (فِي وَجْهِهِ)؛ أي: وجه ذلك المدّاح (الْحَصْبَاءَ) بالمدّ هي صغار الحصى، (فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ) - رضي الله عنه - (مَا شَأْنُكَ؟)؛ أي: لِمَ تفعل هذا؟ (فَقَالَ) المقداد: (إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:"إِذَا رَأَيْتُمُ الْمَدَّاحِينَ، فَاحْثُوا) بالواو، وبالياء؛ أي: ارموا (فِي وُجُوهِهِمُ التُّرَابَ").
قال القرطبيّ رحمه اللهُ: قوله: "يحثو في وجهه الحصباء" كأن هذا الرجل أكثر من المدح حتى صدق عليه أنه مدّاح، ولذلك عمل المقداد بظاهر ذلك الحديث، فحثا في وجهه التراب، ولعلّ هذا الرجل كان ممن اتخذ المدح عادة، وحرفة، فصَدَق عليه مدّاح، وإلا فلا يصدق ذلك على من مدح مرّة، أو مرّتين، أو شيئًا أو شيئين، وقد بيّن الصحابيّ - رضي الله عنه - بفعله أن مراد النبيّ - صلى الله عليه وسلم - من هذا الحديث حمله على ظاهره، فعاقب المدّاح برمي التراب في وجهه، وهو أقعد بالحال، وأعلم بالمقال.
وقد تأوّله غير ذلك الصحابي تأويلات؛ لأنَّه رأى أن ظاهره جفاء، والنبيّ - صلى الله عليه وسلم - لا يأمر بالجفاء. فقيل: إن معناه: خيّبوهم، ولا تعطوهم شيئًا، لأنَّ من أُعطي التراب لم يُعْطَ شيئًا، كما قد جاء في الحديث الآخر:"إذا جاء صاحب الكلب يطلب ثمنه، فاملأ كفه ترابًا"، رواه أحمد؛ أي: خيّبه، ولا تعطه شيئًا. وقيل: إن معناه: أعطه، ولا تبخل عليه، فإنَّ مآل كل ما يعطى إلى التراب، كما قال [من الطويل]:
وقيل: معناه: التنبيه للممدوح على أن يتذكّر أن المبدأ والمنتهى التراب، فليعرضه على نفسه؛ لئلا يعجب بالمدح، وعلى المدّاح، لئلا يُفرط، ويُطري بالمدح، وأشبه المَحامل بعد المحمل الظاهر الوجه الأول، وما بعده ليس عليه معوّل. انتهى (١).