(المسألة الثانية): اختلفت الروايات عن ابن عبّاس -رضي الله عنهما- في مسألة توبة قاتل المؤمن.
قال في "الفتح" بعد ذكر اختلاف الروايات عنه، ما نصّه: وحاصل ما في هذه الروايات أن ابن عباس -رضي الله عنهما- كان تارة يجعل الآيتين في محل واحد، فلذلك يجزم بنسخ إحداهما، وتارة يجعل محلهما مختلفًا، ويمكن الجمع بين كلاميه بأن عموم التي في الفرقان خُصّ منها مباشرة المؤمن القاتل متعمدًا، وكثير من السلف يُطلقون النسخ على التخصيص، وهذا أَولى من حَمْل كلامه على التناقض، وأَولى من دعوى أنه قال بالنسخ، ثم رجع عنه، وقول ابن عباس بأن المؤمن إذا قتل مؤمنًا متعمدًا: لا توبة له مشهور عنه، وقد جاء عنه في ذلك ما هو أصرح مما تقدم، فروى أحمد، والطبريّ من طريق يحيى الجابر، والنسائيّ، وابن ماجه، من طريق عمار الدُّهنيّ كلاهما عن سالم بن أبي الجعد، "قال: كنت عند ابن عباس بعدما كُفّ بصره، فأتاه رجل، فقال: ما ترى في رجل قتل مؤمنًا متعمدًا؟ قال:{فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا}[النساء: ٩٣]، وساق الآية إلى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (٩٣)}، قال: لقد نزلت في آخر ما نزل، وما نسخها شيء حتى قُبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وما نزل وحي بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: "أفرأيت إن تاب، وآمن، وعَمِل عملًا صالحًا، ثم اهتدى؟ قال: وأَنَّى له التوبة والهدى؟ " لفظ يحيى الجابر، والآخر نحوه، وجاء على وفق ما ذهب إليه ابن عباس في ذلك أحاديث كثيرة، منها: ما أخرجه أحمد، والنسائيّ من طريق أبي إدريس الخولانيّ، عن معاوية: "سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: كل ذنب عسى الله أن يغفره، إلا الرجل يموت كافرًا، والرجل يقتل مؤمنًا متعمدًا".
وقد حَمَل جمهور السلف، وجميع أهل السُّنَّة ما ورد من ذلك على التغليظ، وصححوا توبة القاتل كغيره، وقالوا: معنى قوله: {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ}؛ أي: إن شاء الله أن يجازيه؛ تمسكًا بقوله تعالى في "سورة النساء" أيضًا: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}[النساء: ١١٦].
ومن الحجة في ذلك حديث الإسرائيليّ الذي قتل تسعة وتسعين نفسًا، ثم أتى تمام المائة، فقال له: لا توبة فقتله، فأكمل به مائة، ثم جاء آخر، فقال: