للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

اليمين كفّارةً، وليست اليمين بمأثم فتُكفَّرَ، ولكن لَمَّا جعلها اللَّه تعالى فُسحةً لعباده في حَلّ ما عقده من أيمانهم، ورفعًا لحكمها سمّاها كفّارةً، ولهذا جاز إخراجها قبل الحنث، وسقوط حكم اليمين بها عند جماعة من العلماء، وهو الأصحّ، هذا هو تأويل لفظها إلا على قول من أثبتها خطيئةً، وإن اضطرّ إليها، لكن تُكفّرها التغطيةُ. انتهى كلام القاضي -رَحِمَهُ اللَّهُ- (١)، وهو بحثٌ نفيسٌ مفيدٌ.

وقال النوويّ: -رَحِمَهُ اللَّهُ-: اعلم أن البزاق في المسجد خطيئة مطلقًا، سواء احتاج إلى البزاق، أو لم يحتج، بل يبزق في ثوبه، فإن بزق في المسجد فقد ارتكب الخطيئة، وعليه أن يكفر هذه الخطيئة بدفن البزاق، هذا هو الصواب أن البزاق خطيئة، كما صرح به رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقاله العلماء، وللقاضي عياض فيه كلام باطل، حاصله أن البزاق ليس بخطيئة إلا في حق من لم يدفنه، وأما من أراد دفنه فليس بخطيئة، واستَدَلّ له بأشياء باطلة، فقوله هذا غلطٌ صريحٌ مخالف لنصّ الحديث، ولما قاله العلماء، نبهت عليه؛ لئلا يُغْتَرَّ به. انتهى كلام النوويّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: ردّ النوويّ على القاضي غير مسلَّم، بل ما قاله هو الحقّ، كما يتبيّن تحقيقه، بعدُ، فتنبّه.

وقال في "الفتح": قال القاضي عياض: إنما يكون خطيئة إذا لم يدفنه، وأما من أراد دفنه فلا، ورَدّه النوويّ، فقال: هو خلاف صريح الحديث.

قلت: وحاصل النزاع أن هنا عمومين تعارضا، وهما قوله: "البزاق في المسجد خطيئة"، وقوله: "وليبصُق عن يساره، أو تحت قدمه"، فالنوويّ يجعل الأول عامًّا، ويخُصّ الثاني بما إذا لم يكن في المسجد، والقاضي بخلافه يجعل الثاني عامًّا، ويخص الأول بمن لم يُرِد دفنها.

وقد وافق القاضي جماعة، منهم ابن مكيّ في "التنقيب"، والقرطبيّ في "المفهم"، وغيرهما، ويشهد لهم ما رواه أحمد بإسناد حسن، من حديث سعد بن أبي وقاص -رضي اللَّه عنه- مرفوعًا قال: "مَن تنخّم في المسجد، فَلْيُغَيِّب نخامته، أن تصيب جِلْدَ مؤمن، أو ثوبه فتؤذيه".


(١) راجع: "إكمال المعلم" ٢/ ٤٨٧.