للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله تعالى (١).

[فإن قيل]: الحياء من الغرائز، فكيف جعل شعبة من الإيمان؟.

[أجيب]: بأنه قد يكون غريزة، وقد يكون تخلقًا واكتسابًا، ولكن استعماله على وفق الشرع، يحتاج إلى اكتساب، وعلم، ونية، فهو من الإيمان لهذا، ولكونه باعثًا على فعل الطاعة، وحاجزًا عن فعل المعصية، ولا يقال: رُبَّ حياء يمنع عن قول الحق، أو فعل الخير؛ لأن ذاك ليس شرعيًّا.

وقال القاضي عياض وغيره من الشُّرّاح: إنما جُعِل الحياء من الإيمان، وإن كان غَرِيزةً؛ لأنه قد يكون تخلُّقًا، واكتسابًا، كسائر أعمال البرّ، وقد يكون غريزةً، ولكن استعماله على قانون الشرع يَحتاج إلى اكتسابٍ، ونِيّة، وعِلْمٍ، فهو من الإيمان لهذا، ولكونه باعثًا على أفعال البرّ، ومانعًا من المعاصي.

وأما كون الحياء خيرًا كلّه، ولا يأتي إلا بخير، فقد يُشْكِل على بعض الناس من حيثُ إنّ صاحب الحياء قد يَستحيي أن يواجه بالحق مَن يُجِلّه، فيترك أمره بالمعروف، ونهيه عن المنكر، وقد يَحمله الحياء على الإخلال ببعض الحقوق، وغير ذلك، مما هو معروف في العادة.

والجواب عن هذا ما قاله جماعة من الأئمة منهم الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله تعالى: إن هذا المانع الذي ذكرناه ليس بحياء حقيقةً، بل هو عَجْزٌ وخَوَرٌ، ومَهَانَةٌ، وإنما تَسميتُهُ حياءً من إطلاق بعض أهل العرف، أطلقوه مجازًا؛ لمشابهته الحياءَ الحقيقيَّ، وإنما حقيقةُ الحياء خُلُقٌ يَبْعَث على ترك القبيح، وَيمْنَع من التقصير في حق ذي الحقّ، ونحو هذا، ويدل عليه ما سبق عن الجنيد رحمه الله تعالى (٢).

[فإن قيل]: لِمَ أفرده بالذكر هنا؟.

[أجيب]: بأنه كالداعي والباعث إلى باقي الشُّعَب، إذ الْحَيِيُّ يخاف فضيحة الدنيا والآخرة، فيأتمر، وينزجر. ذكره في "الفتح" (٣). والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.


(١) راجع: "المفهم" ١/ ٢١٧ - ٢١٩.
(٢) "شرح النوويّ" ٢/ ٥.
(٣) راجع: "الفتح" ١/ ٦٨.