للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

وعبارة الترمذيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- قال: ومعنى من ذهب إلى تأخير الظهر في شدة الحرّ، فهو أولى وأشبه بالاتباع، وأما ما ذهب إليه الشافعي أن الرخصة لمن ينتاب من البعد وللمشقة على الناس، فإن في حديث أبي ذرّ ما يدل على خلاف ما قاله الشافعيّ، قال أبو ذرّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: كنا مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في سفر، فأذَّن بلال بصلاة الظهر، فقال النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يا بلال أبرد، ثم أبرد"، فلو كان الأمر على ما ذهب إليه الشافعيّ لم يكن للإبراد في ذلك الوقت معنى؛ لاجتماعهم في السفر، فكانوا لا يحتاجون أن ينتابوا من البُعْد. انتهى.

وأجاب الكرمانيّ، فقال: لا نسلم اجتماعهم؛ لأن العادة في القوافل سيما في العساكر الكثيرة تفرقهم في أطراف المنزل لمصالح، مع التخفيف على الأصحاب، وطلب المرعى وغيره خصوصًا إذا كان فيه سلطان جليل القدر، فإنهم يتباعدون عنه احترامًا وتعظيمًا له.

وتعقّبه العينيّ، فقال: هذا ليس بردّ مُوَجَّهٍ لكلام الترمذيّ، فإن كلامه على الغالب، والغالب في المسافرين اجتماعهم في موضع واحد؛ لأن السفر مظنة الخوف، سيما إذا كان عسكر خرجوا لأجل الحرب مع الأعداء.

وقال بعضهم -يريد الحافظ ابن حجر- عقيب كلام الكرمانيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: وأيضًا فلم تجر عادتهم باتخاذ خباء كبير يجمعهم، بل كانوا يتفرقون في ظلال الشجر، ليس هناك كِنٌّ يمشون فيه، فليس في سياق الحديث ما يخالف ما قاله الشافعيّ، وغايته أنه استَنْبَط من النصّ العامّ معنى يخصه. انتهى.

فقال العينيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: قلت: هذا أكثر بُعْدًا من كلام الكرمانيّ؛ لأن فيه إسقاط العمل بعموم النصوص الواردة في الإبراد بالظهر بأشياء مُلَفَّقة من الخارج، وقوله: فليس في سياق الحديث إلى آخره غير صحيح؛ لأن الخلاف لظاهر الحديث صريح لا يخفى؛ لأن ظاهره عامّ، والتقييد بالمسجد الذي ينتاب أهله من البعد خلاف ظاهر الحديث، والاستنباط من النصّ العامّ معنى يخصصه لا يجوز عند الأكثرين، ولئن سلّمنا فلا بد من دليل للتخصيص، ولا دليل لذلك ههنا. انتهى كلام العينيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- (١)، وهو تعقّب وجيهٌ، واللَّه تعالى أعلم.


(١) "عمدة القاري" ٥/ ٣٧.