[والآخر]: بدنيّةٌ أشار إليها بقوله: "وتقرأ السلام". ويقال: وجه تخصيص هاتين الخصلتين هو مساس الحاجة إليهما في ذلك الوقت؛ لما كانوا فيه من الجهد، ولمصلحة التأليف، ويدلّ على ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - حثّ عليهما أول ما دخل المدينة، كما رواه الترمذيّ، مُصَحِّحًا، من حديث عبد الله بن سلام - رضي الله عنه -، قال: أوّلُ ما قدِم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، انجفل الناس إليه، فكنت ممن جاءه، فلما تأمّلت وجهه، واشتبهته، عرفت أن وجهه ليس بوجه كذّاب، قال: وكان أول ما سمعت من كلامه أن قال: "أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصَلُّوا بالليل، والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام".
وقال الخطّابيّ رحمه الله تعالى: جعل - صلى الله عليه وسلم - أفضلها إطعام الطعام الذي هو قوام الأبدان، ثم جعل خير الأقوال في البرّ والإكرام إفشاءَ السلام الذي يعمّ، ولا يخصّ من عرف، ومن لم يعرف، حتى يكون خالصًا لله تعالى، بريئًا من حظّ النفس، والتصنّع؛ لأنه شعار الإسلام، فحق كلّ مسلم فيه شائعٌ.
وفي "مسند الإمام أحمد" ١/ ٤٠٥ - ٤٥٦: عن ابن مسعود - رضي الله عنه -، مرفوعًا:"إن من أشراط الساعة السلام للمعرفة".
(ومنها): ما قيل: جاء في الجواب ههنا أن الخير أن تطعم الطعام، وفي الحديث الذي بعده أنه من سلم المسلمون من لسانه ويده، فما وجه التوفيق بينهما؟.
[وأجيب]: بأن الجوابين كانا في وقتين، فأجاب في كلّ وقت بما هو الأفضل في حقّ السامع، أو أهل المجلس، فقد يكون ظهر من أحدهما قلّة المراعاة ليده ولسانه، وإيذاء المسلمين، ومن الثاني إمساك الطعام، وتكبّر، فأجابهما على حسب حالهما، أو علم - صلى الله عليه وسلم - أن السائل الأول يسأل عن أفضل التروك، والثاني عن خير الأفعال، أو أن الأول يسأل عما يدفع المضارّ، والثاني عما يجلُب المسارّ، أو أنهما بالحقيقة متلازمان، إذ الإطعام مستلزم لسلامة اليد، والسلام لسلامة اللسان غالبًا. أفاد هذه الأسئلة والأجوبة في "عمدة القاري"(١)، وهي وإن كان بعضها تقدّم خلال شرح الحديث، إلا أن