للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

من "لاهَ يَلِيهُ" إذا تستَّر؛ كأنّه، سبحانه، يُسمَّى بذلك لاستتاره واحتجابِه عن إدراك الأبصار؛ وألفُ "لاهٍ" منقلبةٌ عن ياءٍ، يدلّ على ذلك قولُهم: "لَهيَ أبوك"، ألا ترى كيف ظهرت الياءُ لما نُقلت إلى موضع اللام؟ وتُفخَّم اللام تعظيمًا إلاَّ أن يمنع مانعٌ؛ من كسرةٍ، أو ياءٍ قبلها، نحوَ: "بِاللهِ"، و"رأيتُ عَبْدَيِ الله".

وانتصابُ اسم "الله" هنا لِوقوع الحمد عليه؛ وإنمّا قُدّم على العامل فيه لضرب من العِناية والاهتمام بالمحمود، سبحانه وتعالى، والعربُ تُقدِّم ما أَهَمَّ شَأْنُه (١)؛ أعني نحوَ قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (٢)، وأصلُ الكلام: نعبدك ونستعينك، فقُدّم المفعول لضرب من العناية بالمعبود، سبحانه، ولو أتى به على أصله، وقال: "أحمدُ اللهَ"، لَجاز، إلاَّ أنّه يكون خبرًا ساذجًا بلا تخصيص، ولا دلالةٍ على العِناية به.

والحَمْدُ نوعٌ من المَدْح، وهو الثناءُ على الرجل لما فيه من حَسَنِ؛ يقال: حَمِدْتُ الرجلَ أَحْمَدُه حَمْدًا ومَحْمِدَةً، ومَحْمَدَةً، وهو يقارب الشُّكْرَ في المعنى؛ والفرقُ بينهما يظهَر بضدّهما، فضدُّ الحمدِ: الذمُّ، وضدُّ الشكر: الكُفْرانُ؛ وذلك أنّ الشكر لا يكون إلاَّ عن معروف؛ يقال: حمِدتُه على ما فيه، وشكرتُه على ما منه. وقد يوضَع أحدُهما موضعَ الآخر، لتقارُب معنَييهما. وقيل: الحمدُ أعمُّ من الشكر، فكلُّ شكر حمدٌ، وليس كلُّ حمد شكرًا.

وقوله: "على أن جَعَلَني من عُلماءِ العربيَّةِ" أي: صيّرني عالِمًا من عُلمائها.

و"جَعَلَ" هذه تتعدّى إلى مفعولين، ويكون الثاني هو الأولَ في المعنى. ومثلُه قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} (٣). ولـ "جَعَلَ" مواضعُ أُخَرُ؛ تكون بمعنَى "خَلَقَ"، و"عَمِلَ"، فتتعدّى إلى مفعول واحد؛ نحوَ قوله تعالى: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} (٤)؛ وتكون بمعنَى التسْمِيَة، كقولك: "جعل حَسَنِي سَيئًا"، وكقوله تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} (٥). وتكون من أفعالِ المُقارَبة، بمعنَى "طَفِقَ"؛ تقول من ذلك: "جعل يقول"، و"أخذ يقول".

و"العُلَماءُ": جمعُ "عالم"، على حدّ: "شاعِر وشُعَراءَ" و"عاقل وعقلاء"؛ ويجوز أن يكون جمعَ "عَلِيم" ها هنا, لأنّ "عليمًا" بمعنَى "عالم"، وهو أبلغُ في الصفة؛ وإنما قلنا: إِنه جمعُ "عالم"، مع قلّةِ ما جاء من جمع "فاعلٍ" على "فُعَلَاءَ"، وذلك من قِبَل أن "عالمًا" و"عليمًا" لُغتان. ويقول: "علماء" مَن ليس من لغته "عليمٌ"، فعُلم بذلك أنّه جمعُ "عالم".


(١) في الطبعة المصريّة: "ما هم ببيانه".
(٢) الفاتحة:٥.
(٣) البقرة: ١٢٤.
(٤) الأنعام: ١.
(٥) الزخرف: ١٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>