وورد أيضًا ما يُؤكّد الخصوصية، وهو قوله -صلى الله عليه وسلم- لسليك في آخر الحديث:"ولا تعودنّ لمثل هذا". أخرجه ابن حبان. انتهى ما اعتلّ به من طَعَنَ في الاستدلال بهذه القصّة على جواز التحيّة.
وكله مردود؛ لأن الأصل عدم الخصوصيّة، والتعليل بكونه -صلى الله عليه وسلم- قصد التصدق عليه لا يمنع القول بجواز التحية، فإن المانعين منها لا يُجيزون التطوّع لعلة التصدّق.
قال ابن المنيّر في "الحاشية": لو ساغ ذلك لساغ مثله في التطوّع عند طلوع الشمس، وسائر الأوقات المكروهة، ولا قائل به.
ومما يدلّ على أن أمره بالصلاة لم ينحصر في قصد التصدّق معاودته -صلى الله عليه وسلم- بأمره بالصلاة أيضًا في الجمعة الثانية بعد أن حَصَّلَ له في الجمعة الأولى ثوبين، فدخل بهما في الثانية، فتصدّق بأحدهما، فنهاه النبيّ -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، أخرجه النسائيّ، وابن خزيمة من حديث أبي سعيد أيضًا، ولأحمد، وابن حبان أنه كرر أمره بالصلاة ثلاث مرّات في ثلاث جمع، فدلّ على أن قصد التصدّق عليه جزء علّة، لا علّة كاملة.
وأما إطلاق من أطلق أن التحيّة تفوت بالجلوس، فقد حَكَى النووي في "شرح مسلم" عن المحققين أن ذلك في حق العامد العالم (١)، أما الجاهل، أو الناسي فلا، وحالُ هذا الداخل محمولة في الأولى على أحدهما، وفي المرّتين الأخريين على النسيان.
والحامل للمانعين على التأويل المذكور أنهم زعموا أن ظاهره معارض للأمر بالإنصات، والاستماع للخطبة.
قال ابن العربي: عارض قصّةَ سُليك ما هو أقوى منها، كقوله تعالى:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا}[الأعراف: ٢٠٤]، وقوله كرز:"إذا قلتَ لصاحبك: أنصتْ، والإمام يخطب يوم الجمعة، فقد لغوت"، متفق عليه.
قال: فإذا امتنع الأمر بالمعروف، وهوأمر اللاغي بالإنصات مع قصر زمنه، فمنع التشاغل بالتحيّة مع طول زمنها أولى.
(١) قد سبق لك ترجيح القول بعدم الفوات بالجلوس للعامد أيضًا، فلا تغفل.