وعارضوا أيضًا بقوله -صلى الله عليه وسلم-، وهو يخطب للذي دخل يتخطى رقاب الناس:"اجلس، فقد آذيت"، أخرجه أبو داود، والنسائيّ، وصححه ابن خزيمة، وغيره من حديث عبد الله بن بُسر، قالوا: فأمره بالجلوس، ولم يأمره بالتحيّة.
وروى الطبرانيّ من حديث ابن عمر، رفعه:"إذا دخل أحدكم، والإمام على المنبر، فلا صلاة، ولا كلام، حتى يفرُغ الإمام".
والجواب عن ذلك كلّه أن المعارضة التي تؤول إلى إسقاط أحد الدليلين إنما يُعمل بها عند تعذّر الجمع، والجمع هنا ممكن:
أما الآية، فليست الخطبة كلها قرآنًا، وأما ما فيها من القرآن، فالجواب عنه كالجواب عن الحديث، وهو تخصيص عمومه بالداخل.
وأيضًا فمصلي التحيّة يجوز أن يُطلق عليه أنه منصت، فقد تقدّم في افتتاح الصلاة من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، أنه قال:"يا رسول الله سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول فيه؟ " فأطلق على القول سرًّا السكوتَ.
وأما حديث ابن بُسْر -رضي الله عنه-، فهو أيضًا واقعة عين لا عموم فيها، فيَحْتَمِل أن يكون ترك أمره بالتحيّة قبل مشروعيتها، وقد عارض بعضهم في قصّة سُليك بمثل ذلك.
وَيحْتَمِل أن يُجمَعَ بينهما بأن يكون قوله له:"اجلس" أي: بشرطه، وقد عُرِف قوله للداخل:"فلا تجلس حتى تصلي ركعتين"، فمعنى قوله:"اجلس"؛ أي: لا تتخطّ، أو ترك أمره بالتحيّة؛ لبيان الجواز، فإنها ليست واجبة، أو لكون دخوله وقع في أواخر الخطبة بحيث ضاق الوقت عن التحيّة، وقد اتفقوا على استثناء هذه الصورة.
ويَحْتَمِل أن يكون صلى التحيّة في مؤخَّر المسجد، ثم تقدّم ليقرب من سماع الخطبة، فوقع منه التخطي، فأنكر عليه.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن هذا الوجه هو الأولى والأقرب في الجواب من جميع الاحتمالات المذكورة، والله تعالى أعلم.
قال: والجواب عن حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- بأنه ضعيف، فيه أيوب بن نَهيك، وهو منكر الحديث، قاله أبو زرعة، وأبو حاتم، والأحاديث الصحيحة لا تُعَارَضُ بمثله.