ولا يعارض هذا ما سبق في باب الدعاء بعد التشهد من طريق منصور، عن أبي وائل، عن مسروق، عن عائشة - رضي الله عنها -: "قالت: دخل عليّ عجوزتان من عجائز اليهود، فقالت: إن أهل القبور يعذبون في قبورهم … "؛ لأنه يُحمل على أن إحداهما تكلمت، وأقرّتها الأخرى على ذلك، فنَسَبت القول إليهما مجازًا، والإفراد يُحْمَل على المتكلمة.
قال الحافظ - رَحِمَهُ اللهُ -: ولم أقف على اسم واحدة منهما.
(قَالَتْ عَائِشَةُ) - رضي الله عنها - (فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، يُعَذَّبُ النَّاسُ فِي الْقُبُورِ؟) بتقدير همزة الاستفهام؛ أي: أيُعذّب الناس … إلخ؟ (قَالَتْ عَمْرَةُ: فَقَالَتْ عَائِشَةُ) - رضي الله عنها - (قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَائِذًا بِاللهِ) قال ابن السيد: هو منصوب على المصدر الذي يجيء على مثال فاعل، كقولهم: عُوفي عافيةً، أو على الحال المؤكّدة النائبة مناب المصدر، والعامل فيه محذوف، كأنه قال: أعوذ بالله عائذًا، ولم يُذكر الفعل؛ لأن الحال نائبة عنه، ورُوي:"عائذٌ بالله" بالرفع؛ أي: أنا عائذ بالله.
[فإن قلت]: هذا الحديث، ومثله ما تقدّم أيضًا من طريق ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: دخلت عليّ امرأة من اليهود، وهي تقول: هل شعرت أنكم تفتنون في القبور؟ قالت: فارتاع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال:"إنما تُفتن يهودُ" يدلّ على أنه - صلى الله عليه وسلم - أنكر على اليهوديّة.
وحديث عائشة - رضي الله عنها - من رواية مسروق، عنها، أن يهودية دخلت عليها، فذكرت عذاب القبر، فقالت لها: أعاذك الله من عذاب القبر، فسألت عائشة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن عذاب القبر، فقال:"نعم عذاب القبر حقٌّ"، رواه البخاريّ، يدلّ على تصديقه لها، فكيف يوفَّق بينهما؟.
[قلت]: أجاب النوويّ تبعًا للطحاويّ وغيره بأنهما قصّتان، فأنكر النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قول اليهودية في القصة الأولى، ثم أوحي إليه - صلى الله عليه وسلم - بذلك، ولم يُعلم عائشة بذلك، فجاءت اليهودية مرّة أخرى، فذكرت لها ذلك، فأنكرت عليها مستندةً إلى الإنكار الأول، فأعلمها النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بأن الوحي نزل بإثباته. انتهى.
وقال الكرمانيّ - رَحِمَهُ اللهُ -: يَحْتَمِل أنه عيهم كان يتعوذ سرًّا، فلما رأى استغراب عائشة حين سمعت ذلك من اليهودية أعلن به. انتهى.