وكأنه لَمْ يقف على رواية الزهريّ، عن عروة التي ذكرناها، ففيها بعد إنكاره - صلى الله عليه وسلم - على اليهودية، وقولِهِ:"إنما تُفتن يهود، أنه لبِث ليالي، ثم قال لعائشة: "هل شَعَرت أنه أوحي إليّ أنكم تفتنون في القبور"، وفي حديث الباب أيضًا بعد قوله - صلى الله عليه وسلم -: "عائذًا بالله من ذلك"، فقال في آخره: "إني رأيتكم تفتنون في القبور"، ثم أمرهم أن يتعوذوا من عذاب القبر.
وأصرح منه ما رواه أحمد بإسناد على شرط البخاريّ، عن سعيد بن عمرو بن سعيد الأمويّ، عن عائشة - رضي الله عنها - أن يهوديةً كانت تخدُمها، فلا تصنع عائشة إليها شيئًا من المعروف إلَّا قالت لها اليهودية: وقال الله عذاب القبر، قالت: فقلت: يا رسول الله، هل للقبر عذاب؟ قال: كذبت يهود، لا عذاب دون يوم القيامة، ثم مَكَث بعد ذلك ما شاء الله أن يمكث، فخرج ذات يوم نصف النهار، وهو ينادي باعلى صوته: "أيها الناس استعيذوا بالله من عذاب القبر، فإن عذاب القبر حقّ".
وفي هذا كله أنه - صلى الله عليه وسلم - إنما عَلِم بعذاب القبر بالمدينة في آخر الأمر، كما تقدَّم تاريخ صلاة الكسوف قريبًا.
قال في "الفتح" ما حاصله: قد استُشكِل هذا -يعني كونه - صلى الله عليه وسلم - إنما عَلِم به في آخر حياته - مع قوله تعالى:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} الآية [إبراهيم: ٢٧]، فإنها مكيّة، وهي نزلت في عذاب القبر، كما أخرجه الشيخان من حديث البراء - رضي الله عنه -، وكذلك قوله تعالى:{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} الآية [غافر: ٤٦].
والجواب أن عذاب القبر إنما يؤخذ من الأولى بطريق المفهوم في حقّ من لَمْ يتصف بالإيمان، وكذلك بالمنطوق في الثانية في حقّ آل فرعون، وإن التحق بهم من كان له حكمهم من الكفار، فالذي أنكره النبيّ - صلى الله عليه وسلم - إنما هو وقوع عذاب القبر على الموحدين، ثم أُعْلِم - صلى الله عليه وسلم - أن ذلك قد يقع على من يشاء الله منهم، فجزم به، وحَذَّر منه، وبالغ في الاستعاذة منه؛ تعليمًا لأمته، وإرشادًا، فانتفى التعارض بحمد الله تعالى. انتهى (١)، وهو تحقيق نفيسٌ.
(١) راجع: "الفتح" ٤/ ١٦٢ "كتاب الجنائز" رقم (١٣٦٩).