للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

تعالى، وفي رواية: "هذا رحمة" بتذكير الإشارة؛ أي: هذا الدمع الذي تراه أثر رحمة من الله تعالى.

وقال القرطبيّ رحم الله: قوله: "هذه رحمة": أي هذه رقّة يجدها الإنسان في قلبه، تبعثه على البكاء من خشية الله، وعلى أفعال البرّ والخير، وعلى الشفقة على المبتلَى والمُصاب، ومن كان كذلك جازاه الله برحمته، وهو المعنيّ بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما يرحم الله من عباده الرحماء"، وضدّ ذلك القسوة في القلوب الباعثةُ على الإعراض عن الله تعالى، وعن أفعال الخير، ومن كان كذلك قيل فيه: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} الآية [الزمر: ٢٢]. انتهى (١).

(جَعَلَهَا اللهُ فِي قُلوبِ عِبَادِهِ) أي: إن الذي يَفيض من الدمع من حزن القلب بغير تعمّد من صاحبه، ولا استدعاء منه، لا مؤاخذة عليه، وإنما المنهيّ عنه الجزع، وعدم الصبر.

(وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللهُ مِنْ عِبَابٍ الرُّحَمَاءَ") وفي رواية للبخاريّ في "كتاب الطبّ": "ولا يرحم الله من عباده إلا الرحماء".

و"مِنْ" في قوله: "من عباده" بيانية، وهي حال من المفعول، وهو "الرحماء"، وقُدِّم عليه ليكون أوقع، و"الرحماء": جمع رحيم، وهو من صيغ المبالغة، ومقتضاه أن رحمة الله تختصّ بمن اتصف بالرحمة، وتحقّق بها، بخلاف من فيه أدنى رحمة، لكن ثبت في حديث عبد الله بن عمرو، عند أبي داود وغيره: "الراحمون يرحمهم الرحمن"، و"الراحمون" جمع راحم، فيدخل كلّ مَن فيه أدنى رحمة.

وقد ذكر الحربيّ مناسبة الإتيان بلفظ "الرحماء" في حديث الباب بما حاصله: أن لفظ الجلالة دالّ على العظمة، وقد عُرف بالاستقراء أنه حيث ورد يكون الكلام مسوقًا للتعظيم، فلما ذُكر هنا ناسب ذكر من كثرت رحمته، وعظمته، ليكون الكلام جاريًا على نسق التعظيم، بخلاف الحديث الآخر، فإن لفظ الرحمن دال على العفو، فناسب أن يُذكر معه كلّ ذي رحمة، وإن قلّت، والله تعالى أعلم، ذكره في "الفتح" (٢)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.


(١) "المفهم" ٢/ ٥٧٥ - ٥٧٦.
(٢) "الفتح" ٤/ ٣٨.