ولفظ الشافعيّ في "الأمّ": وأُرخص في البكاء قبل الموت، فإذا مات أمسكن، وقال صاحب "الشامل" وطائفة: يكره البكاء بعد الموت؛ لظاهر الحديث في النهي، ولم يقل الجمهور: يكره، وإنما قالوا: الأولى تركه، قالوا: وهو مراد الحديث، ولفظ الشافعيّ مُحْتَمِلٌ، هذا كلّه في البكاء بلا ندب، ولا نياحة، أما الندب والنياحة، ولَطْم الخدود، وشقّ الجيب، وخَمْش الوجه، ونَشْرُ الشَّعْر، والدعاء بالويل والثبور، فكلها محرّمة باتفاق الأصحاب، وصرّح الجمهور بالتحريم، ووقع في كلام بعضهم لفظ الكراهة، وكذا وقع لفظ الكراهة في نصّ الشافعيّ في "الأمّ"، وحَمَلَها الأصحاب على كراهة التحريم، وقد نقل جماعةٌ الإجماعَ في ذلك. قال إمام الحرمين - رضي الله عنه -: ورَفعُ الصوت بإفراط في معنى شقّ الجيب، قال غيره: هذا إذا كان مختارًا، فإن كان مغلوبًا لم يُؤاخَذ به؛ لأنه غير مكلّف، وأما قول الشافعيّ رحمه الله في "الأمّ": وأكره المآتم، وهي الجماعة، وإن لم يكن لهم بكاء، فمراده الجلوس للتعزية. انتهى كلام النَّوويّ رحمه الله (١).
وقال الحافظ أبو عمر رحمه الله في "التمهيد": وفي نهي جابر بن عتيك للنساء عن البكاء دليل على أنه قد كان سمع النهي عن ذلك، فتأوّله على العموم، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "دعهنّ -يعني يبكين حتى يموت- ثم لا تبكينّ باكية"، يريد- والله أعلم- لا تبكينّ نياحًا، ولا صِيَاحًا بعد وجوب موته، وعلى هذا جمهور الفقهاء أنه لا بأس بالبكاء على الميت، ما لم يُخلَط ذلك بنُدْبهّ، وبنياحة، وشقّ جيب، ونشر شَعْرٍ، وخَمْش وجه. قال ابن عباس - رضي الله عنهما - في مثل هذا من بكاء العين، دون نياحة: اللهُ أضحك، وأبكى.
وقال في "الاستذكار" ما حاصله: الصِّيَاح، والنَّيَاحة لا يجوز شيء منه بعد الموت، وأما دمع العين، وحزن القلب، فالسنّة ثابتة بإباحته، وعليه جماعة العلماء. بكى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على إبراهيم ابنه، وقال:"إنها رحمة"، أخرجه مسلم.